صناعة الإبتعاث
السفر لطلب العلم والترحال بين البلدان للاكتشاف والمعرفة, بلا شك أنها عادة نشأت منذ بداية عصور الإنسان؛ لإرضاء شغف عقله الباحث عن الحقيقة. فكان يتنقل بين شتى بقاع الأرض في سبيل ذلك, بداية من عصور الحضارة اليونانية والرومانية مروراً بالحضارة الصينية, حتى ظهور الحضارة الإسلامية ليأتي نبينا محمد –عليه الصلاة والسلام- ليؤكد على أهمية وفضيلة هذه العادة, بقوله: "اِطلبُوا العِلم وَلو بالصِّين, فإِنَ طلَب العِلم فريضَة علَى كُلِ مُسلِم". وكان اهتمام الثقافة الإسلامية وقتها بهذه العادة الصحية للمجتمع جلياً, فمما ينقله لنا التأريخ القول المأثور لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب –عليه السلام- : " تَغَرَّب عَنِ الأوطانِ فِي طلَبِ العُلَى, وسَافِر ففي الأسفارِ خَمسُ فوَائِدِ, تَفرّجُ هَمّ واكتِسَابُ مَعِيشَةٍ, وعِلمٌ وآدابٌ وصُحبَة مَاجِدِ ".
فشهدت حينها العصور الإسلامية ازدهاراً علمياً ملحوظاً من بغداد حتى القاهرة, نتيجة تبادل العلوم والمعارف بينها وبين الحضارات الأخرى, نتج عن ذلك بروز علماء مسلمين كانوا ولا زالوا مفخرة لنا جميعاً, من الخوارزمي وابن الهيثم حتى ابن سينا وغيرهم الكثير.
ظلَّ هذا الوعي بأهمية السفر لطلب العلم ممتداً حتى عصورنا الحديثة, إيماناً من كل الدول والحكومات بضرورة الاستثمار في العقل الإنساني, فهو الاستثمار الوحيد المضمون من الخسارة لكل المجتمعات والثروة الحقيقية التي لا تنضب أبداً. مع اختلاف المسميات والطرق باختلاف الزمان, فمن طلب العلم والاغتراب سابقاً إلى الإبتعاث حالياً, كانت هناك تجارب دولية كثيرة في هذا المجال. يذكر في هذا الشأن الدكتور عبدالعزيز بن طالب في كتابه الدراسة في الخارج :
"إن الملاحظة التي تستدعي التوقف عند دراسة أسباب النهوض والتقدم الاقتصاديين في بعض الدول الآسيوية هو الدور الكبير الذي أولته هذه الدول للتعليم والتدريب و الإبتعاث خلال العقود الماضية, مما جعلها تجني اليوم نتائج استثمارها في التعليم والتدريب و الإبتعاث ثورة تكنولوجية ونهضة اقتصادية وصناعية كبرى. إن نهضة هذه الدول لم تقم على أساس المواد الخام والثروات الطبيعية كأساس لإحداث التنمية الاقتصادية, بل كانت وما تزال العناية بالإنسان وتنمية الثروة البشرية, وإتاحة الفرصة للعامل البشري للإبداع والمشاركة الواعية سر نجاح هذه الدول بل ولا مبالغة في القول بأن العنصر الأساسي والركن الرئيس في هذه الانطلاقة الاقتصادية هو العناية الفائقة بالتعليم أولاً والتدريب ثانياً ".
ولكي نستلهم بعضاً من تجارب الإبتعاث تلك, سوف أستعرض بصورة سريعة بعضاً منها هنا :
- التجربة الكورية الجنوبية:
من بلد فقير في موارده الطبيعية, مصنف ضمن أفقر ثلاث دول في آسيا في منتصف القرن الماضي, أصبح اقتصاده الآن في المرتبة الثالثة بقارة آسيا بعد اليابان والصين, وفي المرتبة العاشرة بين أغنى دول العالم, وفي سنة 2006 احتلت كوريا الجنوبية المرتبة الرابعة في قائمة الدول المنتجة لبراءات الاختراع. وبلا شك أن ذلك التحول الكبير كان ناتجاً بشكل أساسي من سياسة الدولة بالاهتمام بتمويل مشاريع التعليم العالي و التركيز على الإبتعاث في تلك الحقبة. - التجربة اليابانية:
إن نهضة اليابان الاقتصادية والصناعية لم تحدث فجأة بعد الحرب كما يتصور كثير من الناس, وإنما تعود جذورها إلى عام 1868م عندما قرر الإمبراطور ميجي مد الجسور مع الغرب والاستفادة من الخبرة الغربية في تطوير بلاده وتحديثها وذلك عن طريق ابتعاث الطلاب اليابانيين, حيث يقول: "إن المعرفة سوف يبحث عنها ويقتفى أثرها في كل أنحاء العالم", فابتعث مئات الشباب اليابانيين حينها إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية, انجلترا, فرنسا وألمانيا. فكونت اليابان تلك الفترة قاعدة علمية صلبة مكنتها من النهوض سريعاً بعد الحرب, والسير في طريق التقدم والتنمية حتى أصبحت الصناعات اليابانية اليوم تفوق الصناعات الغربية جودة ومتانة وقبولاً لدى المستهلك. - التجربة الصينية:
أسس فكرة الإبتعاث ودراسة العلوم الغربية الزعيم الصيني وي يوان, حيث أدركت الصين بعد حرب الأفيون أهمية العلوم الأجنبية وتعلمها والاقتباس منها لدفع العدوان الاستعماري وصيانة البلاد واستقلالها حتى تظل قوية, فكانت أول دفعة سافرت إلى أمريكا مكونة من ثلاثين طالباً في عام 1872م, كما استقبلت كلاً من انجلترا, ألمانيا واليابان عدداً كبيراً من الطلاب الصينيين, حتى وصلت الصين اليوم إلى ما هي عليه من مكانة أكاديمية حيث تمتلك أكثر من ثلاثة آلاف جامعة حكومية وأهلية يدرس فيها عشرين مليون طالب, منهم حوالي ست مئة وثلاثين ألف أجنبي طالب من مئة وسبعين دولة. - التجربة الماليزية:
عندما استلم الدكتور مهاتير محمد رئاسة وزراء ماليزيا قرر أن يكون التعليم والبحث العلمي هما الأولوية على رأس الأجندة, وبالتالي خصص أكبر قسم في ميزانية الدولة ليضخ في التدريب والتأهل, وتعليم الإنجليزية. كما أرسل عشرات آلالاف كبعثات للدراسة في أفضل الجامعات الأجنبية, فانتقل بها من دولة تمتلك 5 جامعات فقط إلى ثمانين جامعة تصنف من بين أهم و أول مائتين جامعة عالمياً, فتحول بماليزيا من دولة فقيرة إلى دولة تعد من أهم الاقتصادات العالمية.
بعد هذه اللمحة البسيطة عن مدى أهمية وتأثير الإبتعاث في تغيير الدول والمجتمعات من حال إلى حال, يتأكد لنا بأنه استثمار غير قابل للخسارة أبداً.
كل هذه الدول لها هويتها وبيئتها الخاصة المختلفة تماماً عن الهوية والبيئة الغربية, مع ذلك لم توقفهم أوهام خطر الإبتعاث وطمس الهوية وانحراف شبابهم و..و..الخ عن الاستمرار في ذلك, فلم يكن الناتج شباباً ضائعاً وهوية مطموسة, وإنما شباباً متعلماً مثقفاً بهوية رفعت من مكانتهم أمام العالم كله.
كانت التجربة السعودية في الإبتعاث منذ أوائل نشأتها, بدأت بأمر الملك عبدالعزيز بإرسال الطلبة للدراسة في الخارج عام 1346هـ, حيث تم إرسال أربعة عشر طالباً من الحجاز لإتمام دراستهم في مصر بمختلف التخصصات من القضاء والتعليم والزراعة حتى الطب. بعد ذلك تم تأسيس بما يعرف بمدرسة تحضير البعثات في عام 1355هـ, ويعود فضل تأسيسها إلى الشيخ محمد طاهر الدباغ الذي أراد أن يكون في المملكة تعليم عال يؤهل الطالب للإبتعاث خارجها لإكمال دراسته, ثم كانت البعثة الثانية إلى مصر عام 1355هـ لعشرة طلاب لتلقي العلوم الشرعية والعربية وأصول التربية والتعليم, ثم توالت البعثات لمصر في عامي 1361هـ و 1363هـ, حتى بدأت البعثات إلى أوروبا وأمريكا خصوصاً بعد اكتشاف النفط في المملكة.
وظل الاهتمام بإرسال الطلبة إلى الخارج للدراسة, في فترات حكم أبناء الملك عبدالعزيز على اختلاف الأعداد والدفعات. فكان لذلك أثره الكبير حيث عادت إلى المملكة خلال هذه الفترات أسماء كبيرة أسست بشكل كبير و واضح مشاريع تنمية المملكة وبناء الدولة الحديثة, فمعظم الوزراء وأصحاب القرار الذين توالوا على مجلس الوزراء طيلة فترات حكم أبناء الملك عبدالعزيز كانوا من نتاج الإبتعاث إلى الخارج, وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر:
وزارة الثقافة والإعلام: محمد عبده يماني, إياد مدني. وزارة الصحة: غازي القصيبي, عبدالعزيز الخويطر, أسامة شبكشي, حمد المانع, عبدالله الربيعة. وزارة التعليم العالي: خالد العنقري. وزارة العمل: عبدالرحمن أبا الخيل, علي النملة. وزارة الصناعة: عبدالعزيز الزامل. وزارة البريد والهاتف: علي الجهني, محمد بن جميل ملا. وزارة الشؤون الاجتماعية: عبدالمحسن العكاس, يوسف العثيمين. وزارة المياه والكهرباء: عبدالله الحصين. وزارة التربية والتعليم: محمد الرشيد, عبدالله العبيد. وزارة الخدمة المدنية: محمد الفايز, عبدالرحمن البراك. وزارة البترول: علي النعيمي. وزارة الزراعة: فهد بالغنيم. وزارة التجارة: توفيق الربيعة. وزارة الاقتصاد: عبدالوهاب عطار, محمد الجاسر.
كل هذه الأسماء وغيرها الكثير, كان ولا زال لها الأثر الكبير في بناء وإنشاء مؤسسات الدولة, هم من نتاج البعثات والدراسة في الخارج.
حتى جاء عام 1426هـ, ليأمر خادم الحرمين الشريفين وبنظرة إستراتيجية لبناء وتأمين مستقبل المملكة ولإيمانه بأهمية طلب العلم والاستثمار فيه, بإنشاء برنامج خادم الحرمين الشريفين للإبتعاث الخارجي, وبرؤية لإعداد الموارد البشرية السعودية وتأهيلها بشكل فاعل؛ لتصبح منافساً عالمياً في سوق العمل ومجالات البحث العلمي ورافداً مهماً في دعم الجامعات السعودية والقطاعين الحكومي والأهلي بالكفاءات المتميزة. حيث بدأ البرنامج بابتعاث مجموعة من الطلاب والطالبات إلى الولايات المتحدة الأمريكية, ثم توسعت دائرة الإبتعاث لتشمل دول أوروبا والدول المتقدمة في تخصصات متنوعة. حتى وصلت عدد دفعات البرنامج في يومنا هذا السبع دفعات بإجمالي عدد طلبة مبتعثين المئة و واحد وثلاثين ألف وست مئة طالب وطالبة في أكثر من ثلاثين دولة.
طوال مدة هذه الدفعات كان هناك آلاف الطلبة والطالبات من شتى أنحاء المملكة, شهد لهم الغريب قبل القريب بالتميز الأخلاقي والتفوق الدراسي, حتى شرفوا المملكة في كل المحافل الدولية والعلمية, و لو أردت ذكر أو حصر إنجازات طلبة هذه الدفعات سأحتاج إلى عمل دراسة حول ذلك – وقد يكون ذلك مستقبلاً - .
بعد كل تلك الإضاءات السريعة حول صناعة الإبتعاث ومدى أهميته وتأثيره على الدولة والإنسان, لا زلنا للأسف إلى يومنا هذا نعاني من هجمات شرسة تضرب في الإبتعاث وأبنائه. بعد كل تلك الفوائد والإيجابيات, الإنجازات و التطورات, لا زلنا نشهد مهاجمة الإبتعاث بحجج واهية, كخطره على المجتمع وأبنائه وتأثيره على هويتهم, حتى وصل الحال بالضرب بأخلاقيات أبناء وبنات المملكة المبتعثين منهم والتشكيك في التزامهم الديني, مما ينعكس بدون أدنى شك سلباً على نفسياتهم وأدائهم الدراسي, وأيضاً نظرة المجتمع اتجاه هؤلاء الطلبة. كل هذا بدلاً من دعم الحكومة والوقوف معها يداً بيد في سبيل إنجاح هذه البرامج التي ستعود يوماً ما بالفائدة على الجميع, كل هذا بدلاً من دعمهم معنوياً ومادياً, والاقتراب بشكل أكبر وحقيقي إلى هؤلاء المغتربين والمغتربات, وإحساسهم بأهميتهم وأن المجتمع كله ينتظر عودتهم يوماً ما بأعلى الشهادات الأكاديمية.
لا يُعقل أن نحسب حوادث فردية, أو قصصاً خيالية, على آلاف من المبتعثين والمبتعثات لهم آلاف العوائل والأمهات أيضاً. أبناؤكم هؤلاء خرجوا من بيئتنا, تربوا على أيدي الآباء والأجداد, درسوا مناهجنا الدينية, والتزموا بأداء صلواتهم في مساجدنا, فكيف بنا نشكك بهم الآن, ولا نثق بوجودهم في الخارج ؟! فنحن إذن نضرب في تربيتنا ومناهجنا وكل شيء!.
إن هؤلاء المبتعثين والمبتعثات يقضون أجمل أيام عمرهم في الاغتراب بعيداً عن الأهل والوطن؛ في سبيل العودة يوماً ما لبناء الوطن !. حين تودعونهم بأرض المطار, فقط أعطوهم الحب والدعاء بيد والثقة والاعتزاز بيد أخرى, وانتظروا نتاج هذا الحصاد في السنوات القادمة.