لقطة عن شاعر ( 3 )
الموهبة قد لا تتداخل مع الإختصاص بالمطلق ، بمعنى أن المختص في مجال معين ، قد يكون لديه موهبة ما في مجال آخر ، غير مجاله الدراسي أو العملي ، و يكون مبدعا في هذا و ذاك ، و هذا بالطبع _ من سمات التميز و الذكاء .
و هذا ما تميز به شاعرنا لهذا اليوم ، الدكتور مانع سعيد العتيبة ( 1946 - ..... ) الشاعر المرهف الذي تخصص في الإقتصاد ، و نال شهادتها الجامعية من جامعة بغداد عام 1969 ، قبل أن ينطلق للقاهرة و ينال الدكتوراه فيها إضافة للعلوم السياسية ، و بذلك يكون من أوائل شباب ساحل الإمارات المتصالحة ( قبل الإتحاد سنة 1971 ) الذين درسوا في الخارج ، و نالوا الشهادات العليا ، قبل أن يعود إلى بلاده وزيرا للبترول و الثروة المعدنية ، حتى تقاعده عام 1990 .
انطلق شعر العتيبة في سماء القصيدة العربية ، بخيال خصب و جميل ، و عبارات رصينة ، و ألفاظ بالغة العذوبة ، و رغم أنه التزم بأسس الصياغة التقليدية للقصيدة ، إلا أنه أضفى لمسات عتيبية خالصة لقصيدته ، تعرفها ذائقة القارئ و المستمع ، و تعيش معانيها و جزالتها قلوب والهة ، و تغوص بمن يبحث عنها ، في أعماق إنسانية جديدة .
كما أنه امتاز عن غيره من الشعراء ، بقدرته على الجمع بين الشعر الفصيح و العامي النبطي ، و في ذلك قدرة خاصة تحسب له ، لإرضاء ذاته أولا ، و قراءه المختلفين ثانيا .
ألملمُ بعد موتكِ ذكرياتي ** وأمضي راحلاً في عمقِ ذاتي
كأني ماعرفتكِ ذات يومٍ ** وما مارستُ حبكِ كالصلاةِ
أنا بشرٌ وعندي سيئاتٌ ** وحبكِ كان أكبر سيئاتي
خاض الشاعر العتيبة فنونا شعرية كثيرة ، فهو عاش تجارب الألم و شظف العيش ، في بلاده قبل ظهور النفط ، و شاهد الحياة البدوية القاسية ، التي عاشها جيله و من قبله ، و كذلك حياة الغوص لسكان السواحل ، فكانت هذه المعاناة حافزا له على الإبداع ، و منها رائعته ( المسيرة ) التي تعبر عن تلك المرحلة خير تعبير ، فيقول في جزء منها :
كــان للـوالـد فــي البـحـر رفــاق وسفـيـنـة
صنعـوهـا بـالأيـادي السـمـر شـمـاء متـيـنـة
رفعـوا فيهـا شـراع الحـب لا شـرع الضغيـنـة
فــإذا الأمــواج ثــارت ولـهـا صـــارت رهـيـنـة
بــــرز الإيثار فـيـهــم وبــطــولات دفـيــنــة
قــهـــروهـــا بــثـــبـــات وإرادات مــكــيــنـــة
ارتبط شاعرنا برئيس الإمارات الراحل الشيخ زايد ، و كان وزيرا ثم مستشارا خاصا له ، و لم تكن هذه العلاقة كحاكم و محكوم ، بل أقرب للصداقة و الرفقة منها ، و ذلك لبساطة الشيخ زايد رحمه الله ، و شخصيته الفطرية المتواضعة ، و نتج عن هذه الرابطة الحميمة ، نوع نادر من ألوان الشعر العربي ، ألا و هو المشاكاة ، أو المساجلات الشعرية الأخوية ، التي تجنح نحو بث الشكوى من الحب و هموم الحياة ، و كانت بالعامية .
يا شيخ حالي مليله
لا لذ لي قوت ولا نوم
أشكي ولا باليد حيله
واتراكمت في القلب لهموم
يا بوخليفه بي عضيله
من بو خصر هايف ومهضوم
شكيت لي من ذا المليله
يا ذا الخوي مالك اللوم
الحب واشروطه أو دليله
معروف عند اهله و معلوم
ما يحمله راي الهزيله
ايرد دونه او يكسب اللوم .
إن القدرة على تصوير المرارة و الحسرة و المعاناة ، ليست بالشيء اليسير ، فكل البشرية تعاني و تتألم ، و لكن ليست جميعها تستطيع التعبير ، فنقل الآخر ليعيش معك تجربة الفقدان و الغربة ، تحتاج لمؤهلات و إحساس خاص ، و شاعرنا العتيبة دخل مجالا رائعا و هو الرثاء ، و رثاءه ليس الرثاء المنظوم المتكسب ، بل رثاء شخص مكلوم ، في فقد أعز الناس ، فيقول في حادثة فقدان ابنته ( بشائر) ذات العامين :
بَـشـائـرُ نـاداك قلبي أجيبي
ولا تـتـركـيني لِصمتٍ رهيبِ
أنـا جـئـتُ حتى أراكِ فقولي
كـمـا اعْتَدْتِ بابا حبيبي حبيبي
فـصَـوتُـكِ كـان يُريحُ عنائي
ويَـلْـمَـسُ دائـي بكف الطبيبِ
فـكـيـفَ يـغـيـبُ بِلا عودةٍ
غِـنـاء الـحساسينِ والعندليب
تنوعت قريحة شاعرنا الكبير في مجالات الغزل و الحب العذري ، و أوضاع الأمة العربية المأزومة ، و الوجدانيات الأسرية ، و خاض في مجال أسفاره و هواياته في الفروسية و الصيد ، و لكن في اعتقادي القاصر ، يظل مجال الحس العاطفي ، هو الأبرز و الأجمل ، و الأكثر شغفا على النفس ، فيقول في قصيدته ( صراع مع اليأس ) :
لم أزل أرعى لهذا الحب غرسه
رغم أن القلب قد أعلن يأسه
لم يعد صوت حبيبي هامسا
مع أني ذوبتني منه همسه
لم أزل أحيا بآمال ذوت
زاعماً أن الذي قد مر نكسه
للشاعر العتيبة أسلوب فريد في فن الصياغة ، فهو يكتب تجربة الحب لديه بجمال سردي أخاذ ، و تحسب قصيدته قصة شاعرية حالمه ، و هو في ذلك يتفوق على نفسه ، و غيره من الشعراء في هذا المضمار ، و لعله يذكرنا بعمر بن أبي ربيعه !
في قصيدته ( حديث الشجون ) نجد بعضا من هذا الحوار الشعري اللافت :
قالت:أحبك و الهوى أشقاني وعلى طريق شائك ألقاني
قلت:المحبة هكذا لم يختلف في شرح خافي أمرها اثنان
قالت:فهل أشقاك حبي قلت:لا قالت:إذن هل نحن مختلفان
قلت:اسمعي يا بسمتي و شقاوتي إنا بأحضان الهوى طفلان
نبكي و نضحك في زمان واحد شاء الهوى فتجمع الضدان
بلغ عدد دواوين شاعرنا ما يقرب ال 35 ديوانا ، تنوعت في مجالاتها و فنونها ، و مشربها العربي الفصيح أو العامي النبطي ، و هو هنا غزير الإنتاج ، قوي المعاني في آن ، لا يمكن لسطور متواضعة ، أن تلم بتفاصيل تجربة نصف قرن و يزيد ، تجربة مليئة بالعمق و الحيوية ، انتقل خلالها مع محيطه ، من شدة و قسوة إلى رخاء و رفاهية .
فكأنه يصف نفسه و حاله بقوله :
صامد في وجه إعصار النوى ساكن كالليل مشتاق معنَى
كل من يحيا له أمنية وأنا المحروم من أن أتمنى
أخيرا – أرشح بعضا من قصائد الشاعر الكبير ، علها تروي ظمأ من يرغب في المزيد من هذا النهر العذب .
في المجال العاطفي : ثورة الشوق ، هند ، سعاد ، بكاء الحبيب ، مستقيل
في الهم القومي و العربي : الزوبعة ، القدس ، انتفاضة الحجارة
في الرثاء : بشائر ، في رحيل زايد
في الوطن و هموم شعبه : خواطر و ذكريات ، المسيرة .
و إلى لقاء مع شاعر آخر ، دامت أيامكم جميلة .