تسييس العقيدة توهين للمذهب وإفشال للوحدة (1)
في حديث لسيد الشهداء الإمام الحسين لبعض أهل العلم: "...ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم وسلمتم أمور الله في أيديهم يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم...اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان ولا التماسا من فضول الحطام ولكن لنري المعالم من دينك...ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإنكم إن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم"(1).
إن من أسرار قوة ومنعة مذهب أهل البيت طيلة التاريخ هو وجود مناعة ذاتية فيه ضد عبث الحكام والساسة، فحُفِظت عقيدته رغم الحرب الشعواء التي تعرض لها كل ما يمت له بصلة ورغم جريان أنهار دماء أتباعه في مختلف البقاع، ويعود الفضل الأكبر في ذلك للتشريعات التي ضمنت استقلال المؤسسة الدينية الشيعية عن رغبات السلطات والساسة والحذر الشديد من خضوع العلماء لهم حتى في أبسط التفاصيل.
لكن ومع طغيان الصبغة الدينية على الحركات والأنظمة السياسية الشيعية المعاصرة، نجد أن بعض العمائم السياسية الشيعية تقود ذات المشروع الذي نخر وأوهن المذاهب الأخرى مما يهدد بفقدان المذهب الشيعي أقوى عوامل أصالته وصموده أمام العبث والتحريف المصلحي ولحوقه بالمذاهب الأخرى في هذا الجانب بعد استعصاء طويل، ألا وهو مشروع تسييس وتفصيل العقائد والأحكام الدينية حسب مقاسات المصالح والحسابات السياسية أو مزاج الحاكم – شيعيًا كان أم لم يكن بلا فرق- إن سلمًا فسلم وإن حربًا فحرب.
ونحن هنا عندما نتكلم عن العمائم السياسية - الموجودة في جميع التيارات الشيعية الفاعلة مع تفاوت النسبة حسب التصاق هذه التيارات بالمصالح السياسية- فإننا نشير إلى مَن جعل من المعادلات السياسية حاكمة ومقدَّمة على المبادئ والأخلاقيات الدينية لا العكس، فأصبح بذلك ممثلاً لـ "الإسلام السياسي" المُدان لا "السياسة الإسلامية" المطلوبة، وتلحقها في ذلك بعض الواجهات الاجتماعية والثقافية الحقيقية أو المصطنعة في الأساس لتلبية حاجات هؤلاء الساسة.
ولو أحسنا الظن إلى أقصى حد لقلنا أنهم يريدون خدمة الطائفة وتحسين الأوضاع الحياتية –الدنيوية- لأفرادها بتغيير بعض تفاصيل المذهب –الآخرة-، أفلا يكون هذا من مصاديق من باع آخرته بدنياه؟! وهل هذا ما يريده أبناء هذه الطائفة صاحبة التاريخ المبدئي والنضالي الطويل؟! وهل يتوافق ذلك مع تقديم الإسلام لحماية الدين والعقيدة على حماية الأبدان وكل ما يتعلق بالدنيا؟!
أوّ لم يقل أمير المؤمنين : "وقود النار يوم القيامة ... وكل عالم باع الدين بالدنيا"(2) سواء كانت دنياه أم دنيا غيره؟!
أوّ لم يرِد عن الإمام الباقر : "علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب. ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم" ؟! (3)
ولا يخفى أن اعتراضنا على هذه الجهات أنها لا تقدم تغييرها للعقائد والأحكام - سواء صغرت أم عظمت- لجمهورها على أنه تقية أو مداراة بل تقدمه كأطروحات دينية حقيقية بدوافع سياسية واضحة وتشبثًا بكل رأي شاذ بعيدًا عن الموضوعية العلمية "المجردة"، وإذا كان العبث برأس دبوس صغير يحطم الطائرة فأي دمار يحدثه عبث هؤلاء الساسة بتفاصيل الدين؟!
ومن الملاحظ أنهم يضفون على هذا المشروع عناوين براقة ومتعددة كالوحدة الإسلامية، والتعايش مع الآخر، وحفظ دماء الشيعة، وعدم تشويه صورة المذهب، إلخ، بينما تجدهم يمارسون تمزيق المسلمين والشيعة بل وقتالهم وسفك دمائهم عند تضارب مبادئهم ومصالحهم السياسية التي لا يقبلون المساومة عليها أو تمييعها.
وكذلك تجدهم يفقدون كل قدراتهم التفاوضية وحنكتهم السياسية التي يتشدقون بها عندما يتعلق الأمر بالعقيدة، مغفلين أن إدخال العقيدة في أي من هذه المعادلات هو أكبر خطأ وأكبر خدمة للأعداء بضمان فشلها المحسوم سلفًا، حيث لا توجد جماعة في العالم وفي التاريخ بأسره تضع هذا الجزء من حريتها على طاولة المفاوضات لتحقيق هدف مشترك مع جماعات أخرى، فالأمران غير مرتبطان ببعضهما بتاتًا، فإننا مثلاً لا نجد المسلم يلغي آيات القرآن التي تتعرض للعقائد المسيحية، كما لا نجد المسيحي يؤمن بنبوة محمد ليحققا التعايش والوحدة الوطنية التي نجدها متحققة في عالم الواقع دون التطرق للجانب العقائدي الخاص بكل طرف.
إن الزج بالعقيدة في هذه المعادلات هو من أهم أسباب فشل تحقيق الوحدة أو حتى التقارب والتعايش لعقود طويلة من الزمن حيث يخلق عوامل فشل ذاتية عندما لا تكون الوحدة مبنية على القبول المتبادل للآخر - كما هو الحال في جميع الاتحادات الناجحة عبر التاريخ، القائمة على "الوحدة التعددية" لا " الوحدة الإلغائية" التي لم تنجح قط- حيث يفهم الإنسان أن ثمنها هو عقيدته فيقاومها بشراسة، ويخلق عوامل فشل إضافية بفقدان الثقة بين الطرفين حيث يعد الطرف الآخر عبث الساسة بالدين تقية لأنه يعلم العقيدة الحقيقية منذ قرون، وبالتالي فإننا نقع في التفرقة أكثر وأكثر بتفريق ما اجتمع من أبناء المذهب الواحد وبتعزيز حالة اللا ثقة بين المذاهب المختلفة! (4)
وهذا ما صرَّحت به فاطمة الزهراء لأمثال هؤلاء العابثين بالدين حين قالت: "ابتدارًا زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين"(5).
وتراهم أيضًا وعلى النقيض من هدفهم المعلن في خدمة الطائفة، يشاركون في زيادة الأغلال والتهريج ضدها والمطالبات بسن "القوانين" التي تضيق الخناق على حريتها العقائدية التي تضمنها جميع المواثيق الإنسانية والشرعية، ومن ناحية أخرى لا يحققون نتائج عملية ملموسة من الطرف الآخر الذي دائما ما يقابل تمييعهم للعقيدة بالتكذيب واللامبالاة، فيكون إضرارهم بالطائفة مضاعفًا في الدين والدنيا.
إن ما لم يحصل عليه أعداء أهل البيت وشيعتهم بالقوة والسيف والإعلام المضلل، قدمته لهم هذه العمائم السياسية مجانًا استسلامًا لـ "القوة الناعمة" ودون أن تجني شيئًا حقيقيًّا مقابل ذلك.
ورغم تغنِّيهم بكلمة أمير المؤمنين : "كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب"(6) نجد أنهم يمكنون العدو من الركوب على ظهورهم ويمكنونه من حلبهم واستخراج المواقف السلبية تجاه مذهبهم وطائفتهم وحقوقها علاوة على ذلك كما مر وكما سيأتي في المقال القادم حيث لم يكن هذا المقال إلا مقاربة لبعض خلفيات الأمثلة والشواهد المعاصرة التي سنعرضها حول عبث العمائم السياسية بالمذهب بما يجعل الولدان شيبًا والفضائع التي لا يتصور عاقل صدورها ممن يدعي الانتماء لمدرسة أهل بيت العصمة والطهارة فضلاً عمن يدعي تمثيلها!