تسييس العقيدة توهين للمذهب وإفشال للوحدة (2)
في الرواية الطويلة عن الإمام #الحسن العسكري : "...علماؤهم شرار خلق الله على وجه الأرض ... يبالغون في حب مخالفينا، ويضلون شيعتنا وموالينا، إن نالوا منصباً لم يشبعوا عن الرشاء، وإن خذلوا عبدوا الله على الرياء، ألا إنهم قطاع طريق المؤمنين، والدعاة إلى نحلة الملحدين، فمن أدركهم فليحذرهم، وليصن دينه وإيمانه منهم" (1).
كما قدَّمنا في المقال السابق، فقد ابتلي المذهب في هذا العصر بساسة يدَّعون الانتماء له أنالوا – بعلم أو بغير علم- الأعداء منه ما لم ينالوه في تاريخهم المديد من الحرب عليه، وذلك عبر تغيير العقائد والأحكام وسيرة المعصومين وما ارتبط بها من أحداث تاريخية مفصلية وحساسة عملاً بالرأي والاستحسان والأذواق والمصالح مقابل السيرة والنص لحسابات ليست علمية "مجردة" لا يمكن إعذارهم عليها وإدخالها تحت عنوان اختلاف الاجتهادات، فللاجتهاد قواعد وشروط لا تتحقق في ما يصنعون، فأصبحوا كالقوارض التي تنخر أسس المباني عبر قضم جزئياتها التي تبدو صغيرة للعيان واحدة بعد الأخرى فتنهار هذه المباني على المدى الطويل بعد تدرجها في مراحل الضعف والتوهين، فهم يصنعون عين ذلك بالتركيز على نقض الجزئيات التي تبدو صغيرة لعوام الناس لئلا تحدث ضجة ومقاومة كبيرة، ثم ينقضُّون على الدعائم الكبرى ما إن تسنح لهم الفرصة كما شاهدنا جميعا ما صنعه أحد أصحاب العمائم السوداء مؤخرًا في تجنيه على الموروث الروائي عن أهل بيت العصمة وكذبه وتدليسه على العلماء الماضين ومقام المرجعية الدينية للطائفة.
ويكفيك كقرينة على أن دوافع هؤلاء ليست علمية "مجردة" - إضافة لكون الأعم الأغلب منهم ممن ليس له ثقل علمي معتد به في الحوزات الدينية المستقلة ومراجع الدين المجمع على عدالتهم، ولعدم كون أغلبهم من أهل التحقيق والاجتهاد بل يصح القول بأميتهم في هذا المجال، في حين لم تخلو الحوزات من فطاحل هذه العلوم- يكفيك أن تحصر جميع إشكالاتهم وعبثهم لترى أن جلَّها قضايا إنما يثيرها المتشددون من مناوئي الشيعة الذين يريد أن يبني هؤلاء تحالفات ومصالح مشتركة معهم، فهل هذا من محض الصدفة يا ترى؟!
ومما يثير العجب والذهول هو ما تراه من تظاهر هؤلاء بالتمسك بوحدة الصف وعدم إثارة النزاعات والشحناء والبغضاء بين المؤمنين، بينما تجد أنهم هم من يثيرون كل هذه التشنجات في الساحة الشيعية بمناسبة وبغير مناسبة، فيضطر الفقهاء العدول والمفكرون والمثقفون والمؤمنون الواعون للدفاع عن العلم والدين ضد الحروب الجاهلية الشعواء وموجة العبث العارمة.
يقول المرجع الديني سماحة الشيخ بشير النجفي (دام ظله الوارف) في معرض رده على إحدى شبهات العمائم السياسية في نفي إحدى العقائد: "إياك أن يَغرُك قول بعض دُعاة الوحدة الإسلامية على حساب ثوابت المذهب وثوابت الدين الإسلامي، وإذا استولى على السلطة تنكّر لكل المُقدسات، كفاك الله شرَّ هؤلاء وكفى جميع المسلمين شرهم" (2).
- صور من عبث العمائم السياسية "الشيعية" بالدين:
- أصبح تلون العقائد والأحكام الذي كنا نضحك ونسخر من وجوده في بعض المذاهب الأخرى كتحول حكم مَّا من الشرك إلى الاستحباب والعكس في ليلة وضحاها توافقا مع رغبة الساسة أو المبالغة في ترسيخ صنمية الحاكم، أصبح ذلك أيضًا جزء من التشيع الأبتر الذي يروج له هؤلاء اليوم حيث أدخلت العقيدة ضمن معادلات اللعبة السياسية -و السياسة بطبيعتها عالم المتغيرات فلا صديق دائم ولا عدو دائم وانما مصالح قائمة- مثل ترويجهم أن فلانًا هو شعيب بن صالح قائد جيوش الإمام المهدي (عج)، وأن النور أشع من وجه السلطان الفلاني فاسمعوا له وأطيعوا، وأن فلانًا هو الخراساني الذي ينصر الإمام المهدي (عج)، وأن فلانًا شفي ببركة رئيس الحزب الفلاني، وأن الشخصية السياسية المعاصرة الفلانية هي رمز للاسلام وأن معارضتها وتضعيفها هو توهين للاسلام وهو من أكبر المحرمات ! إلخ من الخرافات والأوهام.
- الزعم بأن الغالبية العظمى من الأحاديث عند الشيعة هي يهودية ومجوسية ونصرانية!
- تصوير أن ما دار بين أهل البيت وأعدائهم ومناوئيهم هي قضايا تاريخية بحتة يجب أن لا تؤثر على واقعنا اليوم، ولعمري أي إماتة ودفن لأمر أهل البيت أكثر من هذه؟! وهل قدموا أعز ما لديهم ليظل ذلك حبيس كتب التاريخ؟!
- التشكيك في الأحداث المفصلية في قضية السيدة فاطمة الزهراء التي أدت إلى استشهادها.
- نفي ورود زيارة الأربعين في ضربة لأضخم مظهر شيعي في هذا العصر، ولعمري أي توهين للمذهب أكبر من هذا؟!
وكذلك نفي بعض أجزاء زيارة عاشوراء، ونفي الاستحباب الخاص للسجود على تربة كربلاء، ونفي استحباب المشي لزيارة الحسين في ظل وجود وسائل النقل المريحة!
إضافة للنهي عن البكاء واللطم اللذين لا يكونا هادئين، وعن لبس السواد لفترات طويلة، في تناقض واضح وصريح مع سيرة المعصومين وسنتهم الصحيحة الصريحة في هكذا موارد.
- جعل المقياس والدليل "الشرعي" في الاعتقاد بشيء أو رفضه هو عقلهم ومنطقهم الناقص – أي: الرأي والاستحسان والاجتهاد مقابل النص وجميعها محرمة عند أهل البيت )-، إضافة إلى درجة قبول واستمراء الاخر له، فأصبح التحليل والتحريم بناء على رأي الآخر-وخصوصا السلفي المتشدد-! حتى أصبحوا أظهر مصداق لـ "السلفية الشيعية"، وهو ما يرمون به غيرهم بينما هم أجدر به وأولى لتشبههم بالسلفية في عقائدهم وإشكالاتهم.
ومن أمثلة ذلك: حذف وطمس بعض معالم الدين وتفاصيله التي لا يستمرؤها "بعض" الآخرين -لا اعتراضًا على طريقة التطبيق أو حدوده فقط، بل نفيا لها من الأساس- كبعض أجزاء حديث الكساء وكون محمد وال محمد علة الإيجاد وأن شيعتهم الفائزون السعداء، وبعض أدعية التوسل والاستثغاثة بالمعصومين والمقدسين من أهل بيتهم بل واعتبارها نقيصة في الدين، ولعن الظالمين -مع أن اللعن عقيدة عند المسلمين لا الشيعة فقط لأنها وردت في القرآن في موارد كثيرة-، والشهادة لعلي بالولاية في الأذان، إلخ.
- إشاعة أحاديث ضعيفة – وفي بعض الأحيان غير واردة أصلاً في المصادر الحديثية الشيعية- لتكون بمثابة المسلَّمات عند العوام ولتخدم مصالحهم وتوجهاتهم الانهزامية كحديث "إني لم أبعث لعانًا" وكالمزاعم التي تعزز العلاقة مع السلطات كزعم أن الإمام الصادق كان يقف على أبواب السلاطين!
إضافة إلى إنكار أحاديث ثابتة تعارض مشاريعهم كحديث الفرقة الناجية وهو الثابت عند الطائفتين، وكنفي إحدى عمائم الجهل السياسية البيضاء قبل أيام ورود عبارة "يا لثارات الحسين" ثم تفسيرها بعد ذلك بأخذ الثأر من أعداء الإسلام من الكفار، وكأن من قتل الحسين لم يكن متلبسًا بالعمامة والدين!
وكذلك يلاحظ بشكل واضح تشبثهم المريب بكل شاذ من آراء العلماء الأقدمين، وهذا مستنكر عليهم عقلاً وشرعًا خصوصًا بعد توفر النصوص وغزارة التأصيل العلمي وتسالم الفقهاء مما لم يتوفر لبعض علمائنا الأقدمين للظروف المريرة التي مر بها التشيع ولصعوبة التباحث والتواصل وتبادل الآراء مع العلماء في مختلف البلاد ولضعف التأصيل في بداية كل مسألة مستحدثة، إضافة إلى عدم توفر الأهلية العلمية لأكثر هؤلاء ليكونوا من أهل الاجتهاد والغربلة والتحقيق، فكون من دفن أموال الخمس في بداية الغَيبة معذورًا لعدم وضوح الرؤية لديه، لا يبرر أن يأتي اليوم من يدفن أموال الخمس بنفس تلك الفتوى. وكذلك في المسائل العقائدية التي لم تكن النصوص عليها متوفرة للجميع أو كانت مسألة مستحدثة ارتبكت فيها بعض الآراء ثم ثبت فيها الرأي بنصوص وأدلة واضحة.
فواعجبًا من ركون دعاة التجديد والتحضر إلى التخلف العقائدي والآراء البائدة !
- التضخيم اللامعقول لبعض الأفعال والتصريح -أحيانًا- بأن الشيعة بسبب بعض عقائدهم وممارساتهم الدينية هم السبب في المذابح وحروب الإبادة والأكاذيب المغرضة ضدهم! فبدل الدفاع عن عقائدهم التي تكفلها حرية العقيدة والتي كفلها الإسلام والقانون الوضعي يصورونها بأنها تمزيق وتفرقة للأمة وليست من الإسلام في شيء، متجردين عن الرأي العلمي ومتناسين بسذاجة أن الإبادة ضد الشيعة ترجع لأربعة عشر قرنًا متواصلة من القتل والإرهاب وبنفس الوتيرة -إن لم يكن بوتيرة أعلى- قبل رواج وعلانية أي مظهر عقائدي أو شعائري يغيظ أعداء المذهب حين كانت التقية المغلظة. بل وصل الأمر ببعضهم لتبرير قتل الشيعة كتبرير قتل الشيخ حسن شحاتة بهذه المغالطات الفاضحة.
- التقليل من شأن وأهمية التبليغ ونشر التشيع لأهل البيت ، بل وصل حال بعض كبارهم إلى إدانته! بينما النصوص الثابتة تنص على أن التبليغ من أشرف الواجبات.
- ممارسة الترضي على قتلة أهل البيت وظالميهم في غير موارد التقية والخوف، بل وصف أرذلهم بأنه تاج على رؤوسنا!
- محاولة إقناع الشيعة بتجاهل قضية إعمار المقامات الدينية في البقيع وسامراء بحجة أنها ليست من الأولويات التي تستحق توتير العلاقة مع أعداء المذهب بسببها، فالأولوية عندهم هي تحسين الأمور المعيشية وإن أهينت المقدسات!
- الترويج الواسع لافتراءات فقهية وعقائدية وحتى رجالية ينسبونها للمرجعية وهي لم تصدر عنها، مما ينتج عنه إسقاط مصداقية الجهات الدينية عندما تتضارب الأقوال والنقولات كتحريم العمل الفلاني أو مدح فلان وذم فلان حتى وصلت حديثًا إلى نسبة قول للمرجع الأعلى في تحريم شعيرة معينة عدة مرات على الفضائيات ودون خجل حتى خرج النفي، وقبيلها نسب إليه أيضًّا في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة ما مفاده أنه شخصيًا مع جميع مراجع الشيعة في العراق لا حكمة ولا حنكة لهم كالقائد الفلاني وأنهم هم سبب مشاكل العراق ثم الاعتراف لاحقا بأنها كانت كذبًا حينما افتضح الأمر وتصاعدت الضغوط!
وكذلك تحريف بعض الفتاوى والآراء عن مواضعها وتحميلها أكثر مما تحتمل كتحريف كلام المرجع الخراساني بخصوص تحريم اللعن وهو صاحب المواقف المعروفة في هذا الميدان!
فعلى المؤمن الواعي الحذر من عبث العمائم السياسية بالدين وعدم ربط الحق بالرجال مهما علا شأنهم عنده فـ "إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله"، فإذا عرفت أن التدليس والكذب والجهل باطل فاعلم أن من يتصف به هو كذلك، ولا تذهلك كثرتهم والقداسة التي رسمتها لهم الأجهزة الإعلامية الحكومية أو الحزبية أو الشخصية التابعة لهم في غفلة من الناس و"لا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه"، فما ضل الناس قط كما ضلوا بعلماء السوء المقتاتين على المصالح والشهوات، ويتأكد ذلك في عصرنا هذا.
وهذه المعرفة لا تتأتى بالأمية في الدين، بل بالتفقه والرجوع "للفقهاء العدول المجمع عليهم"، واعلم أن السياسة والثقافة العالية لا تضفي فقاهة وعدالة على العمامة، فخذ من هذا وذاك في مجالهما، وخذ الدين والعقيدة والأحكام من الفقهاء العدول.