رواية نصيحة إبليس أعجبتني كثيرا
قراءة سريعة تسلط الضوء على إصدارات الشاعر والروائي منير النمر
قرأت الرواية الأخيرة الصادرة حديثًا عن دار الغاوون، عنوانها ”نصيحة إبليس“، أعجبتني كثيرًا، سلبتني من الحياة، ثم أعادتني لأمسك القشة، وأمارس دوري ”التنويري“ في ”هداية الأدب“.
ربما بالغت في الجملة السابقة، رجاءً لا تلتفت لها، بل اعتبرها كالشيء الخارج دون قصد، أواصل حديثي: ما سأفضي به إليك ليس قراءة ناضجة ونهائية لأعمالك الروائية الثلاثة، أو لديوانيك الصادرين، بل لمجمل الأفكار الدائرة فيهما على أساس نظرية السياق التي أتبعها، ومارستها في كتابي ”السياق والأنساق“، كما أعلم فهو بين يدكم الكريمة.
الأعمال الشعرية لا أرغب في الحديث حولها، فالمجال يضيق في مساحة الكتابة القليلة التي أمتلكها، لكنني سأشير إلى الخصائص التي تربطها بفكرة الروايات، هل حدثتك مسبقًا عن تسلسل العمل الروائي لديك؟
اعتبره الخطوة الأولى، فالرواية الثالثة في الترتيب؛ التي قرأتها للتو، تحمل رقمًا متسلسلًا، يمكنني وصفه بالجيني، ينمو في كتاباتك، ينهضم رويدًا؛ ليتشكل في الأخير كحافةٍ؛ تؤدي إلى ما بعدها.
سأترك الحديث عن الما بعد إلى النهاية، أما الآن، فيهمني أن أبدأ في طرح الفكرة المركزية التي تحوي ”أفلامك السينمائية“، عفوًا، هل قلت ”أفلامًا“؟
نعم إنها تمامًا كما وصفتها، تشبه الأعمال السينمائية، ومن الجميل رؤيتها على الشاشة التلفزيونية، ستكون عملًا غير مألوف، مخادع ربما، لكنه ينقل الحقيقة المرة؛ التي جاهد الكثيرون لإخفائها، إنها تعمل على نهش الذات من الداخل، على التحطيم المتعمد للقيم والثوابت، على ”تآكل“ المعرفة الثقافية المستشرية في أوساط الطبقات الدنيا من المجتمع.
بداية من النبي الهارب، نلحظ منهجية التدمير لكل شيء ”غائب“؛ أسطوري إن أجدنا القول وأحسنا الظن، ودينيٍّ إن أردنا التلويح بالعقاب وسوء الظن؛ تحطيم القالب الجامد للنبي، للإنسان الأعلى، للبحث عن الأفضل.
التدمير لا يتناول جانبًا معرفيًّا، يتناول بالحدث ما يمكن أن نعبر عنه الجوانب الممكنة، أو النزعات البشرية التي تتفشى في كبرياء الإنسان؛ ذلك الإنسان المستغرق في حب الذات، وامتلاك الفهم الأعلى و”المطلق“ لكل المعارف والعلوم، التدمير لا يشمل النبي كشخص بشري، بل يستهدف الكشف عن الجانب المادي والعاطفي للإنسان كإنسان، قبل أن يكون نبيًا، وبعد أن يلتصق بالنبوة.
لن يستفزني القول حينما توصم بصفة ”الإلحاد“ يومًا ما، رغم أن القرار ليس بيدي، لكنني لن أصفك به، فأنت كما أراك، تبدو في غاية الإيمان، ربما بمنظور مختلف عن الآخرين، نعم، مختلف عن الآخرين، تؤمن بقيم وأفكار مختلفة، لا يؤمن بها الكثيرون، كتاباتك تعطي الطابع الإلحادي؛ الفكر المتناقض يسيطر عليها، لم أقل عليك، عليها فقط، تسعى كما أسلفت إلى الهدم والتدمير، الغرض من التدمير شيء مختلف، سنتطرق إليه تاليًا.
هل تحدثت للتو عن كونك تمتلك نبيًّا في داخلك؟ أظنني فعلت، نعم فعلت، النبي في داخلك أنت، أنت والنبي شيء واحد، لا تنفصلان، كتاباتك تكشفك مهما بالغت في الإخفاء، ربما، أقول ربما، لحسن حظك «أو لسوئه»، أنني قادر على اكتشاف العلاقات الرابطة بين الأجزاء؛ بين البنيات الدالة على الهدم، وتلك التي تسعى إلى الدمار، فالفرق بينهما كبير للغاية، الأولى تسعى إلى الخلخلة والمحو، بينما الثانية لا تتوقف عند مجرد المحو، بل تتابع عملها في تناسق عجيب، أشبه ما يكون بمرويات السلطانة شهرزاد؛ تتواتر الحكايات عقب الحكايات، ثم تصل إلى النتيجة في الخاتمة، في الليلة الأولى بعد الألف، تكتشف كم ”الأكاذيب“ الهائل؛ الذي تفوهت به.
للتو وصفتك بالكذب، أعتذر يا صديقي، إن قبلت عذري فأكمل قراءة الرسالة ولا تلتفت للأخطاء ”غير المقصودة“، تظهر أحيانًا في فلتات اللسان، آمل أن تغفر الخطايا.
في ديوانيك أراك ترتكب ذات الفعل، تمارس التدمير المنهجي، تعمل على التحطيم الشديد للواقع، ليس للشخصيات، فالشخصيات رموز مسرحية تستغلها للوصول إلى لملمة أوراقك، ثم الانقضاض على الفريسة ”الواقع“، وتدمير ما بقي من الحياة في جنباته.
روايتك الثانية تؤكد ما تناولته قبلًا، فالرغبة في التدمير تحتل المساحة الواسعة في خطابك، إهلاك البشرية ليس فعلًا عاديًّا، الوصول إلى القيامة يتطلب الاستعداد، الاستعداد يأتي من النبي الذي تحول إلى بشر، يمتلك النبوءة، يمتلك معها مصير الإنسان.
القيامة الثانية كما أفضل تسميتها، أجدها أقرب إلى روح الرواية، إلى الفكرة الأساس التي تصدر عنها، إلى الترابط مع الرواية الأولى والأعمال الشعرية المتساوقة، يجتمعون لتأليف المعنى الكامل: الإنسان المتطور، وهو ما يقود إلى مرحلة الرواية الثالثة، التي قرأتها للتو.
التركيز في القيامة الثانية على ”الأمركة“ لم يكن فعلًا عبثيًّا، بل أستطيع القول: كان في غاية الإتقان، الحل المثالي لتجاوز منظومة المفاهيم الدارجة واستبدالها بالمفاهيم الأخرى؛ الآتية من الغرب المتفوق.
الحكاية تبحث في مسألة عميقة للغاية؛ تبحث في التعايش من أجل إنتاج الحضارة الكونية، لا تلتفت إلى جنسية الشخص بقدر التفاتها إلى منجزاته، تستبدل النبي القادم من الصحراء، بالشاب الوسيم؛ ذي الملامح الشرقية، أو ذلك الياباني من الشرق الأقصى، أو الروسي، الجميع سواسية، فلقد تحدثت قبل قليل عن الشخصيات واستخداماتها الرمزية في رواياتك وأشعارك، وكونها تأتي لغاية واحدة، الهدف منها هو تدميرها، أو لنقل إلى استبدالها بمشابهاتها، فالروسي لا يختلف عن الجزائري، وهما لا يختلفان عن الفلبيني، والعربي مثلهما، منظومة من الوحدة البشرية في التعامل تأتي كدفعة طافية على السطح، وطاغية للولوج إلى تذويب الفروق، هل تحدثت الآن عن أثر ديني؟ أظنني فعلت.
لست مع الذين يصفونك بالإلحاد، أراهم على خطأ، أرى أيضًا أن عملية التدمير في مشروعك استمرت إلى الجيل الثالث؛ إلى الرواية التي أنهيتها للتو: وصية إبليس.
صديقي منير، لا أعلم إن كنت إلى الآن، تقبل بصداقتي، ربما ترفضها، فالناقد يقسو على الشاعر والروائي، غالبًا ما يتسبب في الهياج والسعار، تصل العلاقة بينهما كالحرب تُدق طبولها، لكنني مؤمن بواجبي، أسعى إليه بالخطوات الواثقة، لعلها تنحرف أحيانًا، إنما في إطار الدلالة ”الكلية“، لا تخرج إلى مستوى التجريح الشخصي، و”إخصاء“ الفن والفنان، أملي أن تأتي الكلمات إليك كما تخرج من القلب.
أظن المقدمة السابقة مناسبة لبدء الحديث الفعلي عن نهاية المرحلة الأولى، ثم الدخول في المرحلة التي تليها، فبوادر السلسلة السينمائية تتوقف أمام ناظريّ في الرواية الثالثة؛ ليبدأ فصل آخر من الكتابة، يتمثل غالبًا في رواية نوعية أخرى، تتجاوز بها مفهومك المعتاد في الكتابة، ليس الأمر مقتصرًا على ”سوء“ في المنهجية أو اتخاذ الموضوع، بل في استمرار النسق، التكرار الكتابي في الروايات والأشعار، النمط المعتاد ينبغي أن يُكسر.
الشخصيات المسرحيات الرامزة إلى الوجود الإنساني والتآلف والتعايش بين مكونات متضادة، ينسحب على الرواية الأخيرة مثلما انسحب على الروايتين السابقتين، لا يلغي الكيان المستقل للشخصية، بل يعمل على إبعاد الجانب الديني والشعائري، تتفق جميع الشخصيات على فكرة ”عدم الإيمان“، تصبح الذات المحركة لفصول المسرحية، لولاها لما تم الوصول إلى الفكرة العبقرية في ”محو“ المخلوق الأدنى، وخلق الكائن ”الخارق“؛ الطفل الذي يتحدث في المهد، والإشارة الدينية الدالة هنا على ارتباط بالشعائري والمقدس واضحة.
الخيط يبدأ من الطفل المعجزة، تنفتح الأبواب المغلقة بسببه، السفينة الفضائية يتم بناؤها بسببه، موت الشيطان ونهاية العالم بسببه، تنبؤاته تؤدي إلى الخاتمة، ليس عيبًا أن يظهر التأثر الديني في الرواية، ربما أدى إلى تأكيد النسقية التي تسير بها، فالجينات السبع مأخوذة من شعرة للنبي الأكرم، وهنا تأكيد على مصداقيته، قد لا يشعر الكاتب بوجود رابط بين النبي والنهاية المتوقعة، لكن الأحداث المتلاحقة تكشف عن اندماج تام بالوعي الديني؛ بالمقدس الإسلامي في سياق بناء رؤية الرواية وهدفها.
الجينات السبع آتية من شعرة للنبي محمد ، فمن الطبيعي أن استنساخها سيأتي بشخصية النبي إلى عمق الرواية، حضور النبي كان فاعلًا، أدى إلى إثارة الحوادث وتسلسلها، إضافة إلى الجانب ”الخارق“ الذي وسمها.
وجود النبي في الرواية ألبسها المسحة الدينية بامتياز، رغم ما يحيط بها من إلحاد، فكما جاء النبي إلى العالم لتخليصه من الملحدين، فهكذا الرواية أتت بالنبي ”المستنسخ“؛ النبي الجديد، ليجبر الملحدين على الإيمان والتصديق بالخالق.
حكاية قديمة، تتكرر بأشكال مختلفة، الهدف منها واحد؛ لا يتغير، الإيمان يقود إلى الخلاص، يتم الإفصاح عن الهدف في نهاية الرواية، مع ختامها، مع تدمير الكرة الأرضية وهروب السفينة الفضائية إلى المجهول.
تتشابه الأنساق؛ لهذا يسهل اكتشافها، السفينة الفضائية تبدأ رحلة السفر إلى العالم الخارجي، سوف تستكشف المجرات؛ الكون الواسع، سوف تعمل على تأسيس فكر مختلف عن السابق، يسعى إلى نبذ فكر الأنبياء؛ لكون العلماء والأشخاص على متنها، ملحدين مارقين، لا يؤمنون بإله، إنما الحقيقة التي تظل واضحة، إنهم مؤمنون رغم إلحادهم، رغم ادعائهم بالإلحاد، رغم أنهم يتحدثون عن الإله، وكأنه من الماضي، من معتقدات البدائيين، لكنهم لا يستطيعون إلغاءه، سيظل موجودًا، محفورًا في ذاكرتهم بطريقة أو بأخرى، جميع الأحداث التي مرت تؤكد حضور الإله.
هل بدأت للتو في إكمال الرواية في فصلها الرابع؛ الذي لم يكتب بعد؟ أظنني فعلت ذلك، فالرواية القادمة كما أراها «يمكنك أن تعتبر هذا تنبؤًا، أو أي اسمٍ تختاره، لا فرق، لكنها النظرية السياقية التي تعمل على إكمال الناقص، وبتر الزائد»، سوف تحدث في مكان بعيد عن الكرة الأرضية المدمرة، أو على الأرض نفسها بعد زوال الدمار؛ لتبدأ إعادة الإعمار، التي ستخلو من المؤمنين، سوف يسيطر عالم من الإلحاد على ساكنيها، إنما في النهاية سيصلون إلى نقطة التوقف، سيدركون وجود الإله، ستأتي الرواية بالإله، السياق يفترض ذلك، لست أنا.
التدمير يتوقف هنا، تبدأ عملية الترميم والبناء، الحياة القادمة تعاني من القسوة والشقاء، لكنها ستظل تبحث عن إله تؤمن به في ظل الإلحاد المنتشر، لا أفق أمام الإلحاد، سيصل إلى نهاية المطاف، الرواية تتلاعب بالشخوص، يبدون ملحدين، في داخلهم تنمو بذرة الإيمان.
لن أستطيع أن أضيف شيئًا إلى عمل غير مكتوب، بل ربما كان من الخطأ أن أتحدث بلغة الواثق عن مرحلة آتية، أراها تتخلق أمامي، تتكون جنينيًّا، إذا لم تكن قد تكونت بعد، لعل الفكرة اختمرت، وحديثي أشعلها أكثر.
محمد الحميدي
14 / 5 / 1435ه
15 مارس 2014م