«مصحف فاطمة» أسرار علوم آل محمد
إن في حياة سيدة نساء العالمين البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام الكثير من الجوانب المشرقة المثيرة للاهتمام، بل كل جوانب حياتها كذلك، هذه الجوانب في حياة هذه العظيمة تدعونا للتوقف عندها بمزيد من التأمل والتدبر والتفكر والتي توصلنا بعد هذه التأملات إلى الخصوصيات الإلهية والفيوض الربانية التي أكرمها الله عز وجل بها، ولا عجب، فهي التي جعل الله عز وجل مظهر رضاه رضاها، ومظهر غضبه غضبها، قال رسول الله : ”يا فاطمة إن الله تبارك وتعالى ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك“، وهي روح النبوة بين جنبي النبي الخاتم، وهي أم النبوة لأعظم نبي، وهي قرينة الإمامة حيث كانت للإمامة كفؤ، وهي من كانت لحجج الله وأوليائه مهد وحجر، إنها فاطمة التي فطم الخلق عن معرفتها، سر الله الأعظم، وبضعة النبي الأكرم، وعدل الوصي المعظم.
إن مما خص الله عز وجل به قديسة الإسلام الكبرى فاطمة الزهراء ، أن جعلها مجمع لعلوم الأنبياء والأوصياء، ومستودع لما خصها به من العلوم الإلهية والمعارف الربانية وعلم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فأصبحت حافظة لهذه العلوم والمعارف والتي دونتها في كتاب لها يعرف ب ”مصحف فاطمة“.
لقد أكد أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم على علم السيدة فاطمة المتميز والخاص عن باقي العلوم، وأن علم فاطمة ومصحفها مصدر من مصادر علومهم المختصة بهم، فهي ”عالمة آل محمد“، والسؤال هنا: من أي العلوم هو علم السيدة فاطمة الزهراء ؟ يقول آية الله العظمى الإمام السيد محمد الشيرازي «قد»: ”إن الصديقة الزهراء كانت عالمة بالعلم - اللدني من الله - فقد اوتيت من العلم والمعرفة قدراً لا يضاهيها فيه أحد سوى والدها وبعلها“، والعلم اللدني كما في كتاب علم الإمام للسيد الحيدري، هو التعلم الرباني، وهو علم الغيوب وأسرار العلوم الخفية، ويقول السيد الآملي ”والعلم الإرثي الإلهي يكون تحصيله بالعلم الرباني“، وهذا العلم يتم تحصيله من خلال ثلاثة أنحاء ”إما وحياً، أو من وراء حجاب أي إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه، أو إرسال ملك“.
وقد ثبتت هذه المرتبة من العلم لسيدة نساء العالمين بل حازت على أعلى مراتبها، فعلمها اللدني بالطريق الأول وهو الوحي يدل عليه ما يروى عن عمار بن ياسر «رضوان الله عليه» انه رأى أمير المؤمنين دخل على فاطمة فقالت له: «ادن لأحدثك بما كان وبما هو كائن وبما لم يكن إلى يوم القيامة حين تقوم الساعة»، ثم انها بعد ذلك أخبرت أمير المؤمنين بمصدر علمها بهذا العلم وأنه من دون تعلم من مخلوق، بقولها: «اعلم يا أبا الحسن أن الله تعالى خلق نوري وكان يسبح الله جل جلاله ثم اودعه شجرة من شجر الجنة فأضاءت، فلما دخل ابي الجنة أوحى الله تعالى إليه إلهاماً أن اقتطف الثمرة من تلك الشجرة وأدرها في لهواتك ففعل، فأودعني الله سبحانه صلب أبي ثم أودعني خديجة بنت خويلد فوضعتني وأنا من ذلك النور أعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، يا أبا الحسن المؤمن ينظر بنور الله تعالى».
كما أنها عليها الصلاة والسلام تحصلت على علمها اللدني من خلال الملائكة فهي ”محدثة عليمة“، عن الإمام الصادق قال: «إنما سميت فاطمة محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة ”إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ“، يا فاطمة ”اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ“ فتحدثهم ويحدثونها». كما ورد ذلك في زيارتها التي تزار بها: «السلام عليكِ أيتها المحدثة العليمة».
كما أنها من الملهمين، فعن الإمام الباقر قال: «إن لنا في ليالي الجمعة لشأناً من الشأن... ويصبح الأوصياء قد ألهموا إلهاماً من العلم جماً مثل جم الغفير» ولا شك بأن فاطمة من الأوصياء، وعن الإمام الرضا حين سأله علي بن يقطين علم عالمكم أسماع أم إلهام؟ قال : «يكون سماعاً ويكون إلهاماً ويكونان معاً». وجاء عن النبي الأعظم في حقها وبيان علمها : «أنا ميزان العلم وعلي كفتاه والحسن والحسين خيوطه وفاطمة علاقته والأئمة من أمتي عموده».
وقد حفظ لنا التاريخ الكثير من المواقف التي تدلل على أعلمية وفقه فاطمة في زمانها وتفوقها على أقرانها، وأنها كانت تفتي النساء وتعلمهم أحكام الشريعة، كما أنها كانت تقضي بين خصومات النساء، وأنها كانت تعلم الرجال ما يصعب عليهم من أمور الدين كما في القضية المشهورة لحديث ”أدنا ما تكون المرأة من ربها أن تلزم قعر بيتها“. كما أن في احتجاجها في قضية فدك وأرثها من رسول الله أعظم البيان على سعة علمها وقوة حجتها ووضوح بيانها وصواب منطقها، حيث تعد خطبتها في المسجد من أهم المصادر في بيان الحكمة من أحكام الشريعة، وتفصيل مفاصل العقيدة الإسلامية، حيث تضمن في خطبتها المباركة التوحيد والنبوة وصفات النبي الخاتم وتاريخه في الجهاد والدعوة وكيف بدل الجاهلية الجهلاء إلى المحجة البيضاء، ثم تنطلق للإمامة وأهميتها للأمة وأنها نظام للملة وأمان من الفرقة، لتعود للتاريخ الجهادي الإسلامي لكن هذه المرة لأمير المؤمنين ، ومنه إلى الفقه الإسلامي وتشريعاته، وهكذا تختصر البضعة الطاهرة ربيبة النبوة ومربية الإمامة رسالة الإسلام في عبارات دقيقة مختصرة عميقة في المعنى والمضمون. هذا هو علم فاطمة ، أما مصحفها خزانة الأسرار الإلهية والفيوض الربانية فنختصر الحديث فيه كما اختصرنا الحديث عن علمها.
جاء في الكثير من الروايات عن أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم أجمعين أن لفاطمة كتاباً يحتوي علوماً إلهية يسمى ويعرف ب ”مصحف فاطمة“ و”صحيفة فاطمة“، عن أمير المؤمنين قال: ”وقد أعطيت زوجتي مصحفاً فيه من العلم ما لم يسبقها إليه أحد خاصة من الله ورسوله“، وقال الإمام الباقر : ”وخلفت فاطمة مصحفاً ما هو قرآن، ولكنه كلام من كلام الله أنزل عليها إملاء رسول الله وخط علي“.
وقد يتبادر إلى الذهن عند سماع كلمة ”مصحف فاطمة“ ان كلمة مصحف تعني قرآن، وأن مصحف فاطمة قرآن آخر غير القرآن المعروف بين أيدينا، وهذا غير صحيح، ف «المُصْحَف» لغة: الجامع للصحف المكتوبة بين الدفتين، والصحف جمع صحيفة وهي التي يكتب فيها، وسمي القرآن مصحفاً لأنه جعل جامعاً للصحف المكتوبة، فليس كل مصحف قرآن!، وفي أيامنا هذه نطلق كلمة «الصحيفة» ونعني بها الصحف اليومية التي يكتب فيها الانباء والاخبار.
وقد بين ووضح الأئمة هذا اللبس في مجموعة من أحاديثهم التي وضحت أن ”مصحف فاطمة“ لا يحتوي على أي جزء من القرآن الكريم، منها ما ورد عن الإمام الباقر : «و إن عندنا لمصحف فاطمة وما يدريهم ما مصحف فاطمة، مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد إنما هو شيء أملاها الله وأوحى إليها»، وقال: «وخلفت فاطمة مصحفاً ما هو قرآن» وعن الإمام الصادق قال: «و مصحف فاطمة ما أزعم أن فيه قرآنا وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحدٍ»، هذه النصوص دالة على أن مصحف فاطمة غير القرآن تماماً، وأنه مصحف جامع للوحي الإلهي خاص بفاطمة بلسان رسول الله وبخط أمير المؤمنين .
كما أن النصوص الواردة عنهم دالة على وجود ثلاثة أشياء احتفظوا بها وهي: ”الجامعة“ فيها الحلال والحرام وجميع الاحكام التي يحتاجها الناس الى يوم القيامة، قال الإمام الصادق في وصفها: «... صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله وإملائه من فلق فيه، وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش»، الثاني هو ”الجفر“ وهو وعاء كالجراب فيه الجامعة ومصحف فاطمة وأسلحة رسول الله ، وجاء في وصف ما يحتويه من العلم عن الإمام الصادق : «... وعاء من أدم أحمر فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل...»، والثالث هو ”مصحف فاطمة“ .
أما محتويات مصحف فاطمة من العلوم والمعارف فقد تعرضت لها الروايات نذكر منها: ان فيه وصيتها كما عن الإمام الصادق : ”فإن فيه وصية فاطمة“، وفيه الاحكام الشرعية عن الصادق أيضاً: ”... ومصحف فاطمة ما ازعم ان فيه قرآناً وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحدٍ حتى أن فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وارش الخدش“، وروايات تشير إلى ان فيه ما يجري عليها وعلى أبنائها كما عن الإمام الصادق : ”إن فاطمة مكثت بعد رسول الله خمسة وسبعين يوماً وقد كان دخلها حزن شديد على أبيها وكان جبرائيل يأتيها فيحسن عزاها على أبيها ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها وكان علي يكتب ذلك فهذا مصحف فاطمة“. وان فيه الاخبار المستقبلية، عن الإمام الصادق ”... أما أنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون“.
وقد تعددت الروايات في تحديد زمن كتابة ”مصحف فاطمة“، فمنها ذكرت أنه جمع وكتب في حياة رسول الله كما قال الإمام الباقر : ”وخلفت فاطمة مصحفاً ما هو قرآن، ولكنه كلام من كلام الله أنزل عليها إملاء رسول الله وخط علي“. وروايات أخرى تدل على ان مصحف فاطمة كتب بعد استشهاده ، كما في الرواية عن الإمام الصادق : ”مصحف فاطمة ما فيه شيء من كتاب الله وإنما هو شيء ألقي اليها بعد موت أبيها صلى الله عليهما“، والظاهر من الجمع بين هذه الروايات هو أن جزء من مصحف فاطمة كتب على عهد رسول الله في حياته وجزء آخر بعد استشهاده .
بقي في الختام ان نشير إلى ان ”مصحف فاطمة“ من مختصات وأسرار علوم أهل البيت عليهم الصلاة والسلام والذي لم يطلع عليه احد سواهم، وأنه كالجفر والجامعة وغيرهما من ميراث الأنبياء والأوصياء، كسلاح النبي محفوظ لدى الأئمة إمام بعد إمام حتى الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف، كما يذكر ذلك آية الله محمد الشيرازي ”و هو الآن - يعني مصحف فاطمة - عند الإمام الحجة وفيه تفسير القرآن وعلم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة“، وقد أعتنى به الأئمة أشد العناية فأخبروا شيعتهم بوجوده ومحتواه وكيفية إملائه، كما أنهم كانوا يراجعونه وينظرون إليه لوصف حال الزمان والإخبار بالأحداث المستقبلية.
إن اختصاص الزهراء بهذه التحفة الربانية، لدليل يضاف على امتيازاتها وفضائلها، وأنها لا تقاس إلا بالأنبياء، ولا تقارن إلا بمن قدستهم السماء.