إمام القلوب
لم تفهم الكثير من الأنظمة أن الشعوب المنتفضة والثائرة لم تحركها فقط الحاجة الى الماديات، بل إن محركها الرئيسي هو الحاجة الى تلك القيّم التي اغتصبتها تلك الأنظمة الديكتاتورية المتعجرفة، القيّم الإنسانية التي يراها الناس متوفرة في دول غربية مدونة في أعلى دساتيرها كالكرامة الإنسانية التي انطلقت منها قوانين الدستور الإلماني، حيث ينص في الفقرة الاولى من المادة الاولى من الدستور الالماني هذه الصيغة «كرامة الانسان غير قابلة للمساس بها، فاحترامها وحمايتها يمثلان واجباً الزاميا على جميع سلطات الدولة»، والكرامة لا تقتضي توفير الحياة المادية وحسب، بل توفير شروطها المعنوية والمادية.
الكرامة التي كانت منتهكة بجميع صورها في عهد الدولة الأموية حتى انهالت عليهم الثورات، ثورة بعد أخرى، حتى ضعفت قوتها، وانتهت على يد العباسيين الذين خطفوا كل الثورات وأبدلوا نظام ديكتاتوري متجبر، بنظام آخر، على طريقة المثل المعروف «تمخض الجبل فأنجب فأراً»!.
هنا يتضح لنا أن الأمة التي كانت تعاني من مُر الدولة الأموية؛ كانت تعاني كذلك من مشكلة فكرية حقيقية مترسبة أدت بها الى صناعة نظام ديكتاتوري بديل عن نظام ديكتاتوري آخر، لهذا كانت الأمة بحاجة الى ثورة فكرية قبل الثورة السياسية، وهنا كان الأئمة الأطهار يعملون عليها خصوصاً في الفترة التي كانت تشهد حراك سياسي عميق جعل النظام الأموي ينشغل بعض الشيء مما أتاح فسحة لتأسيس مدارس فكرية وعلمية في كل المجالات في عهد الأمامين الباقر والصادق ، واستمرت الى عهد الإمام الكاظم الذي استطاع أن يكون امام المواجه وقائدا سياسيا ومعارضا وزعيما روحيا للامه حتى قال لهارون العباسي حين سأله أنت الذي تبايع الناس سراً؟ فقال له الإمام : أنا إمام القلوب وأنت إمام الجسوم.
امتازت ثورة الإمام الكاظم بالتنظيم والرؤية الثورية الثاقبة والهادئة التي اخترقت النظام العباسي في كل مفاصله، حتى وصلت الى داخل قلب الحكومة العباسية، من وزراء وقضاة مقربين لها، بل زادت حتى صارت في البيت العباسي نفسه.
ولما ايقنت السلطه العباسيه بخطورة الاهداف التي كانت الحركه الرساليه بقيادة الامام الكاظم تسعى الى تحقيقها، ولكنها في نفس الوقت لم تكن تتمكن من كشف مخططات الحركه الرساليه الامر الذي فكرت السلطات العباسيه معه بضرب رأس الحركه مهما كلف الامر، فعمدت الى سجن الامام الذي سجن اغلب ايام حياته، متخذ أسلوب الأمويين في تغييب القيادة والرموز حتى تستطيع من خنق حركات المعارضة وشلها، ولكن «دور الحركات الرسالية الثورية لم يضعف، بل كان الامام وعبر الرساليين المؤمنين بحركته داخل جهاز السلطه، يقود الحركه ويدير اعمالها وهو في السجن، الامر الذي جعل السلطة في حالة هستريا ونقله من سجن الى سجن... لأن استمرار الحركه الرساليه يهدد الدوله العباسيه يوما بعد يوم وهم يعرفون ان هذه الحركه هي امتداد للرسالة المحمديه ويعرفون ان الحركة لا ينقصها الأموال فالرساليون يدفعون الخمس والزكاة الى الامام المفترض الطاعه لقد عمل الامام الكاظم على تنمية الوعي السياسي والديني عند الجماهير المحرومة والموالي وصغار التجار وممن يصلح من عناصر النظام وليس اقطابه ومن ثم تربية مجموعة من القادة الذين لايبيعون أنفسهم لملذات ومغريات هذه الدنيا الفانيه... لان الاغراءات التي كانت موجهة من النظام العباسي كانت كبيره وضخمه... لأن الطبقه لتي كانت تحكم البلاد في عهد هارون العباسي هي طبقة البيت العباسي بفروعه المنتشرة وطبقة العسكريين الكبار والدهاقنه العلوج الذين هم من جنسيات مختلفه... فقد أخذت هذه الطبقات بأستثمار جهود الفلاحين وطاقات التجار فقد كانوا يتعاونون في سبيل امتصاص واستعباد هذه الطبقات المحرومه. لذلك عمل الإمام على هذا العمل التعبوي والتربية الاسلاميه. بينما الخلفاء يريدون تطميع الناس وارشاءهم وشراء ضمائرهم وتكوين مجموعه من المرتزقه والمنتفعين حولهم ليحاربوا الائمه أصحاب الحق الشرعي».
لقد ضحى الإمام الكاظم بنفسه الشريفة من أجل أن يكسر حاجز الخوف عند الناس، ويزلزل مملكة الظلم التي شيدها العباسيون على أعناق وأكتاف المحرومين الذي سعوا وضحوا لإسقاط النظام الأموي الفاشي، وعلى سيرته الشريفة سار علمائنا الأحرار المجاهدين، الذين سعوا في بث الوعي الى الناس، وكسر حاجز الخوف لديهم من عصا السلطان، وكسروا هيبة الأنظمة المتعجرفة، وهاهم يدفعون ثمن هذا السلوك الرسالي المحمدي، بنفس الخط والسيرة التي سار عليها الأئمة الأطهار، بالسجن والتغييب، والتصفية الجسدية.
الكاظميون اليوم المغيبون كإمامهم في طوامير السجون لم يكن لهم طمعاً في دنيا، بل يعلمون أن مصيرهم السجن أو الشهادة في سبيل تلك القيم السماوية التي آمنوا بها، وسعوا لزراعتها في قلوب الناس، فلم يبيعوا القضية، ولم يقبلوا رشوة السلطان، بل وقفوا في صف المظلومين والمقهورين والمستضعفين في الأرض.
فالسلام على الامام المغيب في قعر السجون، السلام على الامام الصابر، السلام على الامام المحتسب، السلام على الكاظم من آل محمد .