صنمية النقد
عندما تتصفّح عالم الإنترنت وتقلّب الصحف الإلكترونية للمنطقة تجد ظواهر غريبة:
شخص ينتقد الموروث الشيعي وآخر يتهم التراث بالعدائية وآخر يطعن في الفقهاء والمرجعية و... و... و....!
والأغرب من كلّ هذا، أنّ كل هؤلاء لا علاقة لهم بالعلوم الشرعية والتحصيل الحوزوي، بل أغلبهم أصحاب شهادات أكادمية متواضعة!.
وأنا أجزم أن أغلبهم لو سألته ما اسم الكليني - رضوان الله عليه -؟ لحار جوابًا.
أو سألته ما اسم الشيخ الصدوق - رضوان الله عليه -؟ لتلعثم وتتأتأ!.
أو سألته من هو شيخ الطائفة - رضوان الله عليه -؟ فلن يجيب حتى يستعين بالشيخ قوقل!.
وآخر يتفلسف بالعقائد ويخالف ضروريات الدين والمذهب بحجة العقل والعقلاء وحينما تناقشه يتضح أنه ضرب بالأدلة العقلية والنقلية عرض الحائط ولا يعتني بسيرة العقلاء وطريقتهم في الاستدلال.
وأكثر حجة يلوكونها بألسنتهم هي: «النقد الذاتي».
وحينما تقول لهم أنتم لستم أهل اختصاص، قالوا: الدين للجميع وليس تخصص.
أما قولهم أن الدين ليس تخصص لأن الجميع يجب أن يدين به، فإن كان قصدهم بالدين هو مجموعة المعارف الدينية الواصلة عن طريق الرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله، فنقول أن هذه مغالطة، نعم تطبيق الواجبات والاعتقاد بأصول الدين لا يحتاج لمختص فعلاً، ولكن لا يخفى على كل عاقل أن التعمق في مسائل الحلال والحرام وإثبات العقائد ورد الشبهات يحتاج لمختص.
ثم إن الجميع يعترف بوجود علوم متفرعة تبعًا للمنظومة الدينية وذلك بسبب توسعها، كعلم الكلام الذي يهتم بإثبات العقائد، وعلم الدراية الذي يهتم بدراسة متن وسند الروايات، وعلم الرجال الذي يهتم بدراسة رجال الحديث وأحوالهم، وعلوم اللغة والتاريخ والتفسير والفقه، والفلسفة الدينية وغيرها.
فإذا كانت كلّ هذه العلوم ليست تخصص فما هو التخصص إذن؟
وعندما يواجه أصحاب هذه الدعوى يتحججون بضرورة «النقد الذاتي» وعدم الجمود على ما أوصله لنا السابقون!.
نعم النقد الذاتي مطلوب لكن بشرط أن يكون من شخص يفقه ما ينتقده، وليس من طرف أجنبي لا علاقة له بما ينتقده، فلو رأيت خبازًا ينتقد عمليات نقل الخلايا الجذعية ستسخر منه، أو خياطًا ينتقد أصول الهندسة الميكانيكية سيكون نكتة الموسم، وكذلك عندما نرى طبيب أسنان أو مهندس أو محاسب ينتقد علم الكلام أو الفقه أو الأصول فطبعا لن يقيم أحد وزنا لكلامه..
لابدّ للناقد للحوزة أن يكون منها، عالما بها فمثلا العلامة الشيخ محمد رضا الظفر - قدس سره - انتقد المناهج التي تدرس في الحوزة، وجاء بمناهج بديلة وأقام كلية الفقه، والحوزات الآن لا تستغني عن تدريس كتابيه المنطق وأصول الفقه.
ومن يقرأ مقدمات الكتب التي ألفها الشيخ محمد باقر الإيرواني المعاصر يجد هجمة شرسة منه على مناهج الحوزة ورغم هذا هو شخصية محترمة بين طلبة العلم وبعض مصنفاته أصبحت شبه رسمية في الحوزة ودرسه في النجف الأشرف من أكبر الدروس!
بل الدور الأساسي لكل فقيه من الفقهاء هو عملية النقد المتواصلة للآراء الفقهية والأصولية للمتقدمين، إذ أنّ كرسي البحث الخارج هو عبارة عن نقد الآراء وصناعة أخرى جديدة.
لكن الذي نلاحظه من هذه الأقلام السخيفة هي أنها تنتقد لا لشيء إلا لأجل النقد فقط، نعم فقد أصبح النقد صنمًا يعبده هؤلاء ليتسلقوا على أكتاف أهل التخصص للوصول إلى الأضواء والشهرة، بينما هم غير مؤهلين لنقد حلقة من حلقات برامج الطبخ التي ملأت الفضائيات فما بالك بنقد العقائد المسلّمة أو التراث الشيعي أو الحوزة أو المرجعية؟
وقد استوقفتني رواية في الكافي الشريف لثقة الإسلام الكليني - رضوان الله عليه - في المجلد الأول باب صفة العلم عن أبي عبد الله - - قال: قال رسول الله - -: «لا خير في العيش إلا لرجلين: عالِم مطاع أو مستمع واعٍ»
ويعلق الشيخ محمد آل عبد الجبار القطيفي قدس الله روحه الطاهرة في كتابه هدي العقول على الرواية قائلاً: لما كان حسن المعيشة الدنيوية وكونها خيرًا بطلبها للآخرة وكونها حينئذ وصلة، فمن خلا من ذلك لا خير فيه لهلاك عاقبته وإيصالها إلى الهلاك وإن ظن الجاهل الخيريّة باعتبار قضاء الشهوة الدنيوية مع فسادها عليه أيضا وعدم انتظامها، وإنما تكون كذلك بالعلم والتعلم فلا خير في العيش إلا لعالمٍ مطاع في أمره منقاد له، ولا محالة - حيئذ - لابد من حصول المستمع الواعي، أو مستمع واع فشرط في الاستماع وهو الإصغاء القلبي الذي هو بعد السماع كونه واعيًا لما يلقي إليه ويستمع، فما سوى القسمين همج رعاع، ووجود المستمع كذلك يوجب وجود العالِم والمتعلم.
أما لو كان المستمع غير واعٍ لما يسمع فلا انتفاع له به نفعًا تامًا بحيث تنتظم معاشره وتنتظم أفعاله... إلخ. «راجع هدي العقول إلى أحاديث الأصول المجلد الأول ص 114 - 115»
هذا وأختم كلامي بقوله تعالى: «ولا تقف ماليس لك به علم».