عاشوراء.. رحلة الى عالم الحسين
لكل شيء في هذه الدنيا ثمن، وقيمة الشيء تقدر غالبا بثمن الحصول عليه او بإدراك مزية ما في جوهره. فقد يعبر عن الذهب بأنه ثمين لأن الحصول عليه يتطلب اما البذل أو الجهد، او بسبب تفرده ببعض المزايا النادرة.
لعل مثل هذا المعنى يكون حاضرا للمتأمل في واقعة الطف، حين يتأمل في ماهية الحقيقة وكنه المبادئ التي كان الحسين واهل بيته ثمنا لها في كربلاء.
ترى اي امر عظيم هذا الذي تطلب ان تبذل في سبيله تلك النفوس التي طابت وطهرت وقل نظيرها؟! وأي رسالة تلك التي ارادت السماء ايصالها الى اجيال العالم بهذا القالب المؤلم والمفجع؟! وماهو سر تلك القضية التي تحول فيها التراب الى جوهر مقدس يعبق بعطر الكرامة؟!
واقعا.. عندما نتأمل ذلك الصرح الشامخ من المبادئ والقيم، والذي شيده الإمام الحسين يوم عاشوراء، نجده صرحا عظيما بمختلف ابعاده، على مستوى الثمن والمحتوى والأثر.
ولهذا نجد احرارالعالم على موعد مع هذه المناسبة العظيمة في كل عام ولمدة عشرة ايام، يشدون فيها الرحال الى عالم مقدس، تظلهم فيه سماء الحرية وتقلهم فيه ارض الكرامة والإباء.
في ذلك العالم يدركون الفرق الشاسع بين مبدأ القوة.. وقوة المبدأ، ويتعلمون كيف يصاغ الخلود لصروح شيدت في الضمائر والقلوب.. فصمدت امام رياح الزمن التي لاتبقي ولا تذر.. فخلدت وخلد معها من آمن بها وطوع نفسه لخدمتها..
يتعلمون في ذلك العالم كيف يطلبون لنفوسهم اغلى الاثمان.. واعلى المراتب، فلا يهينوها ويصغرونها بطلب الدون..
يتعلمون ان الايثار صفة لكل عظيم.. والبذل ديدن كل كريم.. ومن خلق ليعطي، لا يمكن ان يمنع، وان عز الطلب..
يتعلمون في ذلك العالم ان المضمار مملكة الأصيل، وان تقدم الهجين حينا..
يتعلمون في ذلك العالم كيف يكون النصر حليفا لهم في كل زمان ومكان.. وتحت اي ظرف.. متى ما أرادوا..
يتعلمون في ذلك العالم ان رؤوس الاحرار لها حالتان فقط: اما مرفوعة.. او مقطوعة..
ليست فقط تلك الصروح من المبادئ والقيم العظيمة هي مايميز عالم الحسين، بل تميز ذلك العالم حتى بمريديه وقاصديه والراحلين اليه، فهو عالم لايدركه سوى الاحرار في دنياهم، وليس فيه مكان للخانع والذليل، وصغير النفس.. هو عالم كتب على مدخله بالخط العريض: « للأحرار فقط »..
ولأن فاقد الشيء لايعطيه، لاينتظر احتراما لهذه القضية ممن لايحترم ذاته، ولا ينتظر أن يؤمن بالحسين الا من كان اهلا لذلك الايمان وجديرا به.
فلا غرابة ان نرى من عميت عين بصيرته وحرم نعمة النظر الى تلك الأبعاد الرائعة رغم قربه منها، فهي أبعاد أعظم من ان تتجسد لكل من هب ودب. فكما أن للحرية عشاقها.. فإن للخنوع من يهواه، ومن لايرى ضيرا في خليفة كيزيد، لا ينتظر منه ان يدرك عالم الحسين، بل لاغرابة حين تصل السفاهة بمنظري السياسة الأموية الى ابداء ممارسات تحاكي الدور الذي مارسه الإعلام الاموي عقب تلك الواقعة، بدءا من اظهار الفرح والسرور وتحويله الى عيد من أعياد المسلمين لا يطاله حكم البدعة، وانتهاءا بإختلاق المبررات والمخارج لمن باء بوزر تلك الدماء الطاهرة التي سالت على صعيد كربلاء.
واقعا.. أحوال هؤلاء المغفلين موضع من مواضع الحمد على النعمة للمتأمل، نعمة ادراك عالم الحسين وقيمه العظمى، حيث منحت هذه النعمة لبعض البشر، وحرم منها البعض الآخر.. تماما كما حرم منها من لم يلبي نداء الحسين في ذلك اليوم.. وتماما كما صمت مسامع قوم صرخ فيهم : «إن لم يكن لكم دين ولاتخشون المعاد.. كونوا أحرارا في دنياكم»..
ولا غرو.. فلكل وجهة في التاريخ خط وامتداد، ومن اختار ان يكون امتداداً للخط الأموي وأشباهه، محال ان يدرك عالم الحسين. فعالم الحسين عالم مقدس.. اسمى من أن يحوي امتدادا لمزابل التاريخ..!