الرحمة تنشأ من رحم الألم!
نحن ضيوف الله في هذا الشهر، ونحن مقبلين على رب كريم، فأعطانا وأكرمنا، حتى وقعنا على أيامه المباركة، شهر تهذيب النفوس وترويضها كي تقـف على الجادة، فالنفس في طياته مهذبة، وسهلة الانصياع والخنوع، إنه شهر مراجعة الحسابات السنوية، إنه بحق شهر الاطمئنان والمساواة بين طبقات المجتمع، ففيه حكمة وفلسفة عظيمة يعم خيرها ونفعها علينا بالاستدامة طيلة العام.
من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ من رحم الألم، وهذا السر العظيم في فلسفة الصوم، إذ يدقق المشرع كل التدقيق في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه، ويمنع الشهوات الجسدية والحيوانية خلالها، حتى آخر رمق من الطاقة، وهذه طريقة عملية وفعالة لنقل النفس من حالة الاستعباد إلى الحرية، لتمر بمراحل وأدوار من التهذيب والتربية، وهي بدوحة الرحمة والسكينة.
متى تحقـقت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة، فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول أعطني، ثم لا يسمع منه طلبا من الرجاء، بل طلبا من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يواسي المبتلى من كان في مثل بلائه، إنها حالة فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة والسعادة المريحة تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطون بإحساس الألم الواحد، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة، ولو حقـقت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا، وإنما يختلفون ببطونهم، وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة، فمن البطن نكبة الإنسانية.
رمضان أحبتي ربيع النفوس وأنيس القلوب نحو العلو الروحي والتواضع الجسدي، فالنفس في هذا الشهر محتسبة في فكرة الخير بعيداً عن الذائد الفانية التي تستعبد النفس وتكبلها، فهي تبني بناءها من داخلها فيكون لديها نوع من الولادة لحياة جديدة من قاع الداخل إلى قمة الخارج، إنها تعيش حالة انتقال من غرفة الظلام إلى غرفة النور في أجواء ملؤها قناعة، حينها سيكون اتخاذ القرار نحو الخلاص.