تناقضات تخل بالمصداقية
أشرنا في المقالة السابقة إلى ما للقدوة من أثر كبير في حياة الأبناء، وهو الأمر الذي يدعو كل من هو في هذا الموقع إلى الالتزام بالأخلاق الحسنة، قولاً وفعلاً، لكونهم النموذج الصالح الذي يُحتذى به في نظر الصغار.
لكن حين يرى الأطفال أعمال قداوتهم تخالف أقوالهم، أو لا يقرنون الأقوال بالأعمال، فإن ذلك سينعكس سلباً عليهم، ويترك أثراً سيئاً في نفوسهم، وبالتالي سوف يفقد الآباء مصداقيتهم لدى الأبناء، ويتسبب في ضرر نفسي فادح. إذ كيف ينشأ مع هذا التناقض والازدواجية أطفال صالحون، وهم يرون المتناقضات في حياة من هم في مستوى القدوات. حينها لن يكون لما سمعوه منهم أي أثر في سلوكهم، بل سوف يتعلمون منهم الكذب والنفاق والازدواجية والخداع، وغيرها من السلوكيات المنحرفة، لأن هؤلاء الأطفال في الأخير هم نتاج ما شاهدوه من أنواع وأنماط السلوك، سواء كان سلوكاً خيراً، أو سلوكاً منحرفاً.
فكم هم هؤلاء الآباء الذين يشتكون من مشكلة اكتساب أطفالهم لخصلة الكذب، غير أن «فطرة الطفل الصحيحة لا تشمل صفة الكذب ولا يعرفها، ولكن الطفل اكتسب صفة الكذب من التربية والمشاهد التي يراها أمامه، فإذا سمع الأب أو الأم وهم يكذبون فسوف يفعل مثلهم، فهو في حالة تقمص وتقليد لما يدور حوله، فلم تتكون شخصيته المستقلة التي تمكنه من فهم الصواب من الخطأ. كما أن الطفل يتعلم الكذب بسبب الوعود التي يقطعها الأب أو الأم للطفل ولم ينفذوها، فيصاب الطفل بالإحباط، فهو يعرف أن هذا الكلام غير صحيح وكذب، ويبدأ في اكتساب مثل هذه الصفات». «1»
غير أن وجود الشخصية الإيجابية الملتزمة بالقيم يمكن أن تكون قدوة ونموذج سلوكي حي وسط البيئة التي يعيش فيها، ويُكسِب الأفراد المحيطين به أنماط السلوك الصحيح، ويغرس فيهم القيم الإيجابية، ويساهم في تعديل أنماط السلوك الخاطئ وغير المرغوب. ودائماً ما يكون التوجيه والإرشاد مؤثراً ليس بالكلام والأقوال فقط، وإنما حين يعمل المرشد وفق منطوق كلامه، أي حين يقرن الأقوال بالأفعال من دون تناقض أو ازدواجية.
ويجدر أن نشير إلى أن القدوة التي نشير إليها في هذه المقاربة ليس فقط الأبويين، بل يمكن أن يكون الأخ الأكبر، أو المعلم، أو الداعية، أو خطيب المسجد، أو أي إنسان له القدرة على التأثير فيمن حوله، من خلال ما يمتلكه من قدرة على التأثير والإرشاد، أو القدرة على تعزيز القيم الفاضلة والأخلاق الحسنة.
وحسب قول الكاتب نجيب يماني، "فإن الذي يعزز من معايير القدوة ويغذيها في نفس ووجدان الفرد هو المعلم في فصله، والرئيس في عمله، والداعي في مسيرته، وخطيب المسجد في موعظته، إضافةً إلى أثر الأبوين وكبار العائلة الذين يملكون التوجيه والإرشاد والتأثير على النشأ في تعزيز القيم والمعايير والأخلاق الحسنة، بعيداً عن الفصل بين الواقع الذي ينظر به الطفل إلى من هو أكبر منه وما عليه هذا القدوة، والذي من واجبه أن تُطابق أفعاله أخلاقه، حتى لا يفقد الثقة وتضيع الصورة المثالية المطلوب تحقيقها للمجتمع. ولعل من الأخطاء التي نرتكبها أننا نقول للطفل شيء ونعلمه في المدرسة أشياء أخرى، وعندما يخرج إلى منزله والحياة العامة من حوله يجد الكذب والسرقة والنفاق والخداع، وكيف والده يتعامل مع أمه وإخوته وأفراد عائلته.
وينتهي يماني إلى القول بأن الطفل وحتى سن البلوغ هو أكثر فئات المجتمع تأثراً بالقدوة، لذا يجب علينا أن نكون حذرين في التعامل معه، ونزيل الأقنعة، ونُبطِّل الكذب والخداع الذي أمامه. وإذا كان البعض لا يستطيع أن يترك ما ابتلاه به الله من سوء في أخلاقه، فعليه أن يتجمل على الأقل، ويحاول أن يكون قدوة حسنة ومثل طيب؛ لأن القدوة هي الأساس في مجتمع صحي سليم. " «2»
إن وجود القدوة الحسنة لها تأثيرها الإيجابي في النفس والعقل أكثر من التأثير الذي يأتي بالقوة، أو بمجرد النصح والوعظ. وهو الأمر الذي على كل قدوة أن يضعه نصب عينيه كي يكون مثالاً حياً لحسن السيرة والسلوك، والخلق القويم. لذلك على المربي، وفي أي موقع كان، أن يكون القدوة في احترام القيم الإيجابية، والالتزام بالأخلاق الفاضلة، والسلوكيات الطيبة، فالأطفال يتقمصون شخصية من هم بمثابة القدوات، ويتمثلون سلوكهم كنموذج تربوي بشكل شعوري ولا شعوري.
فأنماط السلوك الحسنة التي يتعرض لها الفرد في نشأته تتحول مع الزمن إلى عادة ونمط سلوكي في حياته، وحين يكبر غالباً ما يلتزم بها، ويشعر بالحرج إن مال عنها وخالفها.