لقد كانت ملاكاً
حين نتأمل في أنفسنا ومن حولنا نجد أمامنا صنفان من الناس: أحدهما يتّجه ناحية ذاته، والآخر ينطلق باتّجاه الآخر.
فمن يتّجه ناحية ذاته قد يكون أنانيّا بحيث لا يرى إلا نفسه، وأن كل ما يسعى له في الحياة ينحصر في شخصه هو، بل قد يستخدم القوّة والعنف لتحقيق ما يُريد. وقد يكون إنساناً يتحرك وفق مصالحه الشخصية، فأينما تكون المصلحة تجده فيها. وقد يكون إنساناً يُقدّر ذاته، ويؤمن بكفاءته، فيحرص أن يكون في الموقع الذي يُعزز من قيمته، ليس لأنانيّةٍ فيه، ولا لمصلحةٍ يطلبها وإنما لهدف سامي ينشده، ودورٍ رسالي يُقدّمه للناس من حوله.
أما من ينطلق باتّجاه الآخر فقد يكون لعبةّ بيد غيره، أو يكون مقيّداً بقيود المجتمع الذي ينتمي إليه. وقد يكون إنساناً معطاءً متفانياً في خدمة الناس من حوله، فهو يحمل في أعماقه القيم الإنسانية بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى.
ويُمكننا أن نتفهم الشخص الذي يتفانى في خدمة محيطه الأسري الصغير، ويبذل أقصى طاقته من أجلهم، أما ذلك الشخص الذي يتفانى في خدمة الناس بشكلٍ عام بعيداً عن كونهم من أهله وقرابته أو لا، فهذا الإنسان نموذجٌ مختلف بين الناس.
واليوم نحن نودّع شخصيّةً كانت نموذجاً مشرقاً لمعنى الإنسانية، ولقد آلمني جداً نبأ رحيلها المؤلم، إذ أنني عرفتها عن قرب، وقدّمت معها أكثر من برنامج، فوجدتها شخصيّة تحمل في أعماقها قيماً إنسانيّة قلّ أن تجد نظيراً لها في عالمنا اليوم. بل إنها ورغم مرضها المزمن إلا أنها كانت تُجاهد نفسها، وتُقاوم مرضها، لتنشر بهجةٍ هنا، وتُضيف لمسةً هناك، وتنشر وعياً في سياقٍ آخر، لقد كانت بحق ملاكاً يبثُّ طُهراً أينما حلّت. إنها الناشطة الاجتماعية الأستاذة صفاء حسين هلال، تغمّدها الله تعالى وبواسع رحمته ومغفرته.
ومن الملفت للانتباه في مسيرة هذه الإنسانة المؤمنة أنها اهتمت اهتماماً كبيراً بالمرضى، فأسست لجنة أنامل الرحمة، مع عددٍ من المهتمين والمهتمّات، والتي تعني بعيادة المرضى في أوقات المناسبات والأعياد، ومن هنا يُمكننا أن نستشف أمراً مهمّاً وهو أن الذي يحمل في أعماقه ألماً قد لا يشعر بألمه إلا من يعيش نفس الألم أو شبيهه، فقد ترى أمامك مريضاً يتألم، ولا تجد نفسك تستشعر ألمه، أو تعتبره أمراً اعتيادياً، لأنك لم تُقاسي مثل ذلك الألم؛ وخصوصاً مع ذوي الأمراض المزمنة كمرض فقر الدم المنجلي الذي كانت تُعاني منه فقدتنا السعيدة، فهؤلاء يعيشون الألم كلّ يومٍ ألف مرّة إلا أن الألم أصبح رفيق دربهم، فتجد الكثيرين من الناس لا يشعرون بألمهم.
وهنا تُسطّر لنا الأستاذة صفاء مثالاً لتحسس آلام الآخرين، وبث روح الأمل في نفوسهم، وإشعارهم بأنهم ليسوا وحيدين مع الألم، كلّ ذلك يُمثّل تجسيداً حيّاً للقيم الإنسانية؛ إذ لا قيمة للقيم التي يتشدّق بها الإنسان في حديثه النظري، ثم لا تجد لها واقعاً ملموساً في حياته.
اللهم تغمّد فقيدتنا السعيدة بواسع رحمتك ومغفرتك، واحشرها يا ربِّ مع محمدٍ وآله الطاهرين، واخلف على أهلها في الغابرين، واربط على قلوبهم بهذا المصاب، وعندك تحتسبها يا رب العالمين.