لو دامت لغيرك..!
أتذكر قصة صديقة لي بدأت حياتها المهنية كمساعدة إدارية، ولأنها طموحة فقد واصلت الدراسة وتطوير نفسها وتحصيل الشهادات بجانب بناء الخبرة العملية لكن عندما أبدت جاهزيتها لمرحلة جديدة من حياتها المهنية وطلبت من مديرها الانتقال لوظيفة أكثر تحدياً واحترافية، قوبل طلبها بالرفض، وقال لها حرفياً إنها بدأت وظيفتها كمساعدة ويجب أن تبقى كمساعدة!
مَنْ شاهد مسلسل «سرايا عابدين»، الذي عرض أول جزء منه في شهر رمضان 2014، والذي يحكي عن حياة الخديو إسماعيل بعد تسلمه عرش مصر، التي كانت تسمى قديماً «المحروسة»، بالتأكيد سيتذكر معي مقولة الملكة خوشيار أم الخديو إسماعيل «الله خلقنا طبقات ولازم نبقى طبقات» لتعلّم أحفادها درساً خطيراً في الحياة بأنهم من طبقة أعلى وأشرف من طبقة الخدم وعامة الشعب، وأنهم يجب ألّا يحبوا أو يتزوجوا من غير طبقتهم.
في الحقيقة هذا النوع من الاعتقاد موجود عند البعض من عامة الناس ناهيك عن ذوي الأموال والمناصب.
يعاني الكثير من الموظفين من نفس هذه النظرة الدونية من رؤسائهم، فيعتقد بعض المديرين أنهم خلقوا لهذه المناصب، وغيرهم يجب أن يبقى مرؤوسا تحت تصرفه وفي نفس الوظيفة أو على نفس المرتبة حتى تقاعده، فيمارس عليه مختلف أنواع الظلم والتعسف بعرقلة حياته المهنية وتترافق بعض الحالات أحياناً بغيرة المدير من موظفه بسبب تفوقه عليه في الشهادات العلمية، الخبرات العملية أو حتى في قوة الشخصية فقط. ولا يستطيع بعض المديرين عزل أهوائهم الشخصية في تعاملهم مع موظفيهم فيسيئون استخدام السلطة الممنوحة لهم من الشركة، فيرقي هذا ويهمش ذاك حتى لو أثبت الأول إهماله والأخير جدارته.
أتذكر قصة أخرى لزميل كان مكتبه لصيقاً لمكتبي، وكان يحييني مبتسماً جيئة وذهاباً ويتبادل معي أطراف الحديث من وقت لآخر حتى جاء صباح ذلك اليوم ومع بداية الدوام صادفته عند بائع القهوة ولاحظت تغيره الشديد وتجاهله لي كلياً على الرغم من رؤيته لي، ولم أفسر سبب ذلك التجاهل حتى بلغتنا الإدارة أنه قد تم تعيينه كرئيس قسم مؤقت حتى رجوع رئيس القسم الدائم من إجازته. أستطيع أن أقول جازمة إن مقولة «الفلوس تغير النفوس» صحيحة، وأضيف عليها أيضاً «والمناصب تغير الحبايب»!
فعلاً، «لو دامت لغيرك لما وصلت إليك»، هي حكمة من الحكم الخالدة، التي يجب أن يتدبر فيها كل إنسان عاقل، خصوصاً ذوي المناصب أو مَنْ تفضل الله عليه ببعض الأموال ويجب أن تعلق على باب مكتب كل مسؤول لتذكره أن منصبه تكليف لا تشريف. لقد أصبحت أتذكر وأكرر هذه الحكمة كلما رأيت تصرفاً غريباً ممن أطلق عليهم صفة حديثي العهد بالنعمة.
بالمقابل لي تجارب راقية مع مديرين في مناصب عالية لكنهم بمنتهى التواضع. تعلمت وما زلت أتعلم منهم الكثير، ومن أهم وأقوى الدروس هو كيف لا تشعر موظفيك بالدونية، وتكون إنساناً ناجحاً وتقودهم معك للنجاح، الذي سيقود لنجاح الشركة ثم الوطن. ولا يفوتني بكل فخر واعتزاز ذكر قصة القدوة والمثل الأعلى الصبي، الذي تحول من راعٍ للأغنام لعامل بسيط في وظائف عدة، ثم موظف ينقل الأوراق في شركة أرامكو السعودية، وتدريجياً أصبح رئيساً لها حتى انتهى به المطاف وزيراً للبترول والثروة المعدنية كأكبر دليل على أن دوام الحال من المحال، وأنها حقاً لو دامت لغيرك لما وصلت إليك!