أرقام الموتى ..!!
أحياناً يقودني العَبَثُ في جوَّالي للولوج إلى سجلّ الأسماﺀ ، فأتجوّل بينها و كأنني في حديقةٍ غَنَّاﺀ مكتظَّةٌ بالزهور ، فأقفُ عند اسم هذا و أشتَمُّ عبير خُلُقَه الزكيّ فابتسم ، و أقفُ عند اسم ذاك فيفوح عبَق خفّة ظلّه و مقالبه الكوميديَّة و أضحكُ حدَّ القهقهة ، و أمرقُ عند اسم شخصٍ فأنظر للسماﺀ كي ارسم جمال روحه بين غيومها ، و أمرقُ عند اسم آخرٍ فيَعمّ شذى مبادراته و مواقفه الأرجاﺀ ، و في هذه الأثناﺀ ، تزهو الإبتسامة ، و يتطاير رَذاذ الحُبُور ، إلى أن يصدح الألم بصوته ، و يفرضُ قَسراً كلمته ، فيُبَدِّد ما سواه ، فعندما تقع عيناي على اسم شخصٍ قد فارق الحياة ، أقف متسمّراً إزاﺀ اسمه ، و احتار في (كيفية) طَرق أبواب التعبير ، و (آلية) اطلاق هَباء الأحاسيس .
هل أتذكّره في حياته أم أتذكّره بعد مماته ؟!.. هل أتذكّره بإبتسامة أم بندامة ؟!.. و وَقعُ الألم يكون أكبر ، و النزف أغزَر عندما أتصفَّح رسائله النَصيَّة المُِختبئة في أروقة جوّالي ، فحتماً ستعمل هذه الرسائل عمل المِبْضَع مع الجراح ، فكيف لي أن أكون و أنا أقرأ رسالةً وصلتني منه في أحد الأعياد و هو يقول لي فيها : " كل عامٍ و أنتَ بخير يا صديقي" ، و يجتاحني شعورٌ موجعٌ لا ترياق له بأنني لست قادراً على أن أردّ له ذات العبارة في أي عيدٍ قادم ، فأتأمّل الإسم بإستفاضة ، و تأخذني الذكريات بعيداً ، بعيداً جداً ، فأصلُ لنقطة اللقاﺀ الأول ، مروراً بمحطات العلاقة كلها ، و ما تخللها من مواقف و لحظات جميلة و ممتعة ، أو مُرَّة و مرعبة ، كلها اتَّسَمَت بالخلود ، و أصل بذاكرتي لآخر لقاﺀ أو آخر اتصال ، و أرسم الملامح أو أعيد الإستماع لنبرة الصوت ، و كأنني أهيﺀ نفسي مُجدّّداً لما سأصل إليه ، أو ما سيصلني إن صحَّ التعبير ، إلى أن أصل بمخيّلتي للحظة تلقيَّ نبأ رحيل صاحب هذا الإسم من عالمنا ، فأشعر أنني وقعتُ في بئرٍ عميقٍ لا قرار له . و بعد الإستيعاب مُجدَّداً ، أسأل نفسي بحِيرة :
بما أن صاحب هذا الرقم قد رحل ، فما فائدة إبقائي على رقمه في جوالي ، و لِمَ لَمْ أجعل رقمه يرحل برحيل صاحبه ؟!.. لِمَ تأجيج الوجع كلما عبرتُ بجانب اسمه ، و تصفّحتُ رسائله و تلمَّستُ مضامينها ؟!. ثم أراجع نفسي و أقول : إذا كان صاحب هذا الرقم قد رحل من العالم العام ، فلِمَ أجعل رقمه و رسائله ترحل من عالمي الخاص ؟! و إذا كنتُ لا أمتلك ذكرى واضحة منه أستطيع أن أحملها معي في كل الأرجاﺀ سوى رقمه و بقايا رسائله النصيّة فمن الأولى أن أحافظ عليها حتى بعد رحيله ، فهي غالية في معناها و أوقاتها في حياة صاحبها ، فضلاً عن قيمتها و معناها بعد رحيله ، و التي تضاعفت و لاشك ! ! .
و إن كانَ قد رحل بجسده ، فلنجعل عبقه و ذكرياته تحفّ بنا مهما تضائلت ، و لنجعل رقمه و رسائله التي كانت تحمل صدق مشاعره تسكن في جوالاتنا للأبد ، فلطالما اتصلنا به على هذا الرقم و اتصل بنا من خلاله ، و كان باعثاً مشتركاً للأصوات المحفوفة بالمشاعر و المصحوبة بالضحكات و المغلّّفة بالأخبار و المستجدات ، و تلقينا من هذا الرقم الرسائل النصيّة المطرّزة بالتهاني و التبريكات ، و الملوّنة بالحِكَم و النصائح ، و لطالما أصبح هذا الرقم حلقة وصلٍ مُحكَمة جمعتنا بصاحبه بإختلاف المكان والزمان ، و لم تنفَضّ تلك الحلقة إلا بالرحيل ، و لطالما أصبح أستوديو الجوّال قفصاً يحبس الكثير من الصور و مقاطع الفيديو التي تخفي ورائها الكثير من القصص و الذكريات ، فيجب أن نَفي لهذا الرقم وفاﺀً لصاحبه على أقل تقدير.
كم من عزيزٍ لم أقتنع بنبأ وفاته ، فصرت أحاول الإتصال به على جوّاله و لكنني لا أجدُ إلا رسالةً صوتيةً تقول : ( إن الهاتف المطلوب لا يمكن الإتصال به الآن ) ، فأوقن أن الطرق إليه كلها مؤصدة.
بقي أن أقول لمَن هم تحت رحمة خالقهم و أرواحنا تتوق لعناقهم ، شذاكم لا زال يملأ الأماكن التي ارتدناها معكم و التي جمعتنا بكم ، و صدى أصواتكم لم يبرح زواياها. فعندما نزور المطاعم و المجمعات التجارية و الكوفي شوبز نجد لكم بُقَع ضوﺀٍ لا تخَفت أبداً ، فنتأمَّل أماكن وقوفكم و أماكن جلوسكم و كأنكم لا زلتم تشغلونها.
جمعنا الله بكم في الفردوس الأعلى.