سقوط الصامتين في زمن الفتن
الفتنة قائمة في كل زمان ومكان، لكن ربما لا يختلف اثنان كون زمننا هذا من أشد الأزمنة التي تتكالب الفتن فيها واحدة بعد أخرى كقطع الليل المظلم لا يعرف أولها من آخرها حتى سمي بـ "زمن الفتن"، وقد تخفي الأيام المقبلة من الفتن ما هو أعظم وأدهى وأمر مع تقدم عقارب الساعة نحو "آخر الزمان" لحظة بعد أخرى.
- مغالطات شائعة في التعاطي مع الفتنة:
وفي ظل اضطراد هذه الفتن يقع الكثيرون في حيرة من أمرهم حول سبل التعاطي معها والأهم من ذلك حول الواجب الشرعي تجاه معطياتها، وهنا تستوقفنا عدة "مغالطات" أشيعت بين الناس حتى صارت في عداد المسلَّمات ووحي السماء بينما تخالف صريح النصوص المقدسة وروح الدين والواجبات الأخلاقية للفرد والمجتمع، ومنها:
1) حصر معنى الفتنة بأنها الخلاف والصراع وانقسام المجتمع، وبالتالي فجميع أطرافها مدانة وهي مذمومة مطلقًا، وخلاف هذه النظرة لروح الدين والعقل واضحة تكفينا في ردها سيرة جميع المصلحين والأنبياء والأوصياء التي لم تخلو واحدة منها على الإطلاق من الصراعات والخلافات والانقسامات التي يثيرها أشياع الضلالة وأنصار الجور باستمرار، فـ (الفرقة في الحق، خير من الوحدة على الباطل).
2) أن الرد على من يتبعهم بعض الجمهور والتوضيح المبني على الأدلة العلمية هو إثارة ومشاركة في الفتنة والنعرات والعصبيات، وعدم الالتفات إلى أن من ينشر الانحراف والضلال - وإن تلبس بلباس أهل العلم والتقوى- هو من يشعل الفتنة لا من يتصدى له، وبالتالي تكون الصورة النمطية السائدة عند بعض العوام مقلوبة عن الصورة الحقيقية.
قال تعالى: "فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ"(1)، وفي آية أخرى: "وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ"(2)، كما ورد عن أمير المؤمنين : "إنما بدء وقوع الفتن أهواء تُتّبع، وأحكام تُبتدع، يُخالف فيها كتاب الله، يقلِّد فيها رجال رجالاً على غير دين الله" (3).
3) أن الإنسان النزيه المتقي هو من يبتعد عن الفتنة والخلافات والصراعات وينأى بنفسه عنها وتكون سمته الصمت، وسنأتي ببعض النصوص الدينية التي تثبت عكس ذلك لاحقًا.
-
من جذور هذه المغالطات:
1) عدم الإحاطة بالمعاني المختلفة لكلمة "فتنة"، بل وتفسيرها بمعان اجتماعية وسياسية بعيدة كل البعد عن المعنى اللغوي للكلمة، فمن معاني الفتنة التي تستخدم بكثرة في النصوص الدينية وربما يكون أكثر المعاني شمولية أنها: الاختبار (4)، وهذا المعنى هو ما سيكون محط اهتمامنا في هذا المقال.
2) الفهم الخاطئ للتحذيرات والتنبيهات الدينية من الفتن، وترتيب صورة سلبية عن الفتنة بشكل مطلق بناء على هذه التحذيرات، وعند الرجوع للنصوص نجد أنها تشدد على الحذر الشديد في سبل التعاطي مع الفتنة وذمًّا للأداء السيئ لأكثر البشر عند الفتنة أو ذمًا للفتنة بمعانيها الأخرى البعيدة عن المعنى الذي أشرنا إليه، كالفتنة بمعنى التعذيب أو العذاب ومسبباته ومواضعه أو الكفر وغير ذلك، وهي لا تذم الفتنة في ذاتها بل على العكس من ذلك نجدها تثبت أن الفتنة سنة من السنن الإلهية في الكون التي لا يمكن تفاديها حيث يقول تعالى: "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةٌ"(5)، ويقول: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون" (6)، وفي آية أخرى إشارة إلى أن الفتنة في فرصة للنجاة وتصحيح المسار وهو ما ينافي ذمها في ذاتها كما هو واضح: " أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ" (7).
3) بناء الموقف من الفتنة استنادًا على النصوص والرؤى المخالفة لأهل البيت كموقف من خذلوا الحق بخذلانهم لسيدة النساء ، وتثبيط أبي موسى الأشعري للناس عن المشاركة في حروب أمير المؤمنين ، ومواقف أمثالهم من نهضة الحسين .. وجزء كبير من هذه العقلية كان مفصلاً حسب القياسات المطلوبة من السلطات ضمن استغلالها للدين في ترسيخ حكمها وسياساتها، فاعتبرت الفتنة هي "شق العصا" السياسية أو الاجتماعية وما شابه من أفكار مخالفة للدين والعقل والمبادئ الإنسانية، وصور للناس – عبر المنبر الديني بشكل أساس- أن الموقف الصحيح الوحيد وموقف المؤمن المتقي عند الفتنة هو الفرار منها بأي طريقة ممكنة والصمت ودس الرأس في التراب والحفاظ على الوضع السائد و"الوحدة" وإن كانت على الباطل وان ما خلا ذلك هو الشر والإثم والمعصية والعدوان.
-
كيف نتعاطى مع الفتنة؟
إن الفتنة - كأي اختبار في هذه الحياة- هي ميدان قد يجد الإنسان نفسه فيه مجبرًا وقد يقتحمه باختياره، وفي هذا الميدان يكون أمامه خياران: النجاح أو الفشل. وكما في الاختبارات المدرسية والجامعية فإن الهروب من الاختبار أوالصمت فيه نتيجته الفشل والسقوط وحاله ليس أفضل من تقديم الإجابات الخاطئة. وإذا كان الله هو من يدخل المؤمنين في الفتنة كما نصت آية "أحسب الناس"، فمن الطبيعي أنه ينتظر منهم فعلاً صحيحًا فيها، ولا يريد - سبحانه- منهم الفرار والصمت.
ولا يتثنى من ذلك إلا عند كون الصمت هو بذاته "فعلاً حقيقيًا" في وجه الباطل كمن تطلب منه السلطات الجائرة مباركة قتل الأبرياء فيصمت، فيكون صمته فضحًا للباطل لا العكس وعدم السماح باستغلال هذا الصمت من قبل أهل الباطل للتسلق على ظهور الصامتين واتخاذهم مطية لتمرير مشاريعهم ومخططاتهم.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن للفعل والصمت حدودًا وموازين تقدر بقدرها حسب تداخلها مع القواعد الدينية الأخرى في بعض الحالات الاستثنائية إلا أن المبدأ الأساس الذي لا يصح أن يُهجر باللجوء للذرائع "الاستثنائية" هو أن الواجب في زمن الفتنة هو الفعل الإيجابي وتبيين الحق وفضح الباطل. كما أنه ينبغي الحرص أن يكون الفعل عن علم ودراية ولا يخفى أن الجاهل ليس معذورًا بجهله ولا تسقط عنه المسؤولية بهذه الذريعة، حيث "يجب على المكلف أن يتعلم المسائل المبتلى بها".
وبالنظر للنصوص الدينية نجدها وبكل وضوح تتعرض لهذه المغالطات المزبورة وتفنيدها، ومن ذلك - بشكل مختصر- :
- التصريح الواضح لسيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء بأن جمع الكلمة والوحدة على الباطل وتمريره مخافة الفتنة والخلاف هو بعينه السقوط في الفتنة: "ابتداراً زعمتُم خوفَ الفِتنَة (ألاَ فِي الفِتنَة سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّم لَمُحِيطَةٌ بالكَافِرينَ)" (8).
- لعن رسول الله للصامتين عن البدع: "إذا ظهرت البدع في أمتي، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله" (9). مع لحاظ نسبية العلم والجهل، وكذلك مسؤولية التعلم في حال الجهل وتبليغ العلم (المتحصل من الغير) لمن جهله أو كان من الغافلين.
- وعنه أنه قال : "إذا ظهرت البدع، ولعن آخر هذه الامة أولها، فمن كان عنده علم فلينشره، فإنَّ كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على محمّد" (10).
- كما ورد عنه أيضًا : "إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي، فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبِّهم، والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم، كي لا يطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس، ولا يتعلمون من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الاخرة" (11).