”الأورام السرطانية: التنشؤات الخفية“
«الجزء الأول» مقدمة تمهيدية
لوُحظ خلال السنوات الماضية - وبالاعتماد على الكثير من المصادر الطبية والمؤشرات العلمية البحثية - حجم التغير في معدلات الارتفاع لحالات أمراض السرطان على اختلاف أنواعه في بعض من بقع العالم بشكل عام وفي المنطقة التي نعيش نحن عليها في شبه الجزيرة العربية بشكل خاص. وبالنظر للشريط الجغرافي الذي يضم دول الخليج على وجه التحديد، سنرى بأن هناك نمو طردي - بالوثائق وليس بمجرد الملاحظات الشخصية - في بعض من أنواع الأمراض السرطانية «وهو محور سنتعرض له في أجزاء قادمة». وهذا الأمر يدعو للكثير من التأمل والتحليل البحثي الدقيق، ليتم بعدها البدء في التفكير بموضوعية، ولنتمكن بعد ذلك من الوقوف على أسباب هذا الانحراف المعياري الحاد والمخيف والذي بدأ يتسارع في رسم انعطافاته التصاعدية «كما سنلاحظ خلال هذا التحقيق وبالأرقام عند الوصول للأجزاء ذات الصلة بهذا الأمر».
هنا وقبل البدء في الحديث عن مرض السرطان «المصطلح العام والذي سنفكك معناه فيما بعد»، نستطيع أن نقول - في الجانب الأول - بأن التغيرات الكبيرة التي حصلت فيما يُسمى بالحضارة المادية الحالية بزخارفها الملونة وديكوراتها البرَّاقة قد ساهمت - وبما لا شكك فيه - في توفير الكثير من سبل الراحة والرفاهية لبنى البشر بل وساعدت وكانت جزءًا رئيسًا في تقدم الأنسان على المستوى التكنولوجي الدقيق، خصوصًا في مجتمعاتنا الخليجية والتي كانت تُعد في يوم من الأيام مجتمعات غير معقدة مقارنة بغيرها من المجتمعات الأخرى وبالخصوص الغربية منها «ونحن هنا نوصف، ولا ننتقد هذا التقدم الحضاري». أما في الجانب الآخر، فنستطيع أن نقول أيضًا بأن كل ذلك التقدم على المستوى المادي الترفيهي قد أدى إلى اكتشاف الكثير من الأمراض، سواء كانت وراثية أو مزمنة أو خبيثة قاتلة، ومن ضمنها المرض الخفي - والذي نحن بصدده - والذي نمهد للحديث عنه في هذه السطور وهو مرض السرطان على اختلاف أنواعه. ولو أردنا أن نستخدم لغةً قاسية تجاه كل هذا التقدم، سنقول أنه قد يكون سببًا، أو أن بعضًا من متغيراته قد تدخل من ضمن ما قد يؤدي لبعض - إذا لم يكن كل - الأمراض التي بدأنا نسمع عنها في ايامنا الحالية، وهذه الجزئية هي أيضًا جزئية توصيفيه ولا يُقصد بها ذمًا للتقدم الحضاري ولا مديحًا له.
أسئلة كثيرة ربما تدور في ذهن وخلد من يسمع أو يعيش مع أحد يشتكي من هذا المرض الخبيث والذي يُسمى بالسرطان والذي تقشعر أجسام الكثير منا لمجرد السماع به. والسؤال الاستطرادي المبدئي هنا - وفي هذه المقدمة - هو: لماذا سُمي بهذا الاسم؟
لقد استمد مرض السرطان اسمه في الأصل من اللغة اللاتينية، وكما هو الحال بالنسبة للكثير من الأمراض الأخرى التي ترجع في تسميتها أيضًا لتلك الحضارة، حيث كان الرومان في العصور الغابرة يصيغون أسماء الأمراض من خلال ما يبديه المرض نفسه من تغيرات وظواهر أو أعراض وعلامات كانت تُرى من قبلهم بالعين المجردة أو يلتمسونها بحواسهم البشرية بشكل مباشر. وحيث أن الأوعية الدموية المحيطة ببعض أمراض السرطان كان تبدو لهم وعند النظر لها لأول مرة وكأنها «في امتداداتها وتشكيلاتها» أرجل الحيوان البحري الذي يُسمى بالسرطان، فعليه جاءت التسمية وقد اقترنت به، حيث أطلقها ولأول مرة الطبيب الإغريقي ”غالن“.
وعلى العلم من أن هذه التسمية قد أُطلقت من قبل مجموعة من الناس عاشوا في غابر الأيام، ألا أن العلم الحديث يتفق معهم فيها، خصوصًا إذا ما نظرنا إلى سلوكيات هذا المرض الورمي الخبيث بالتقنيات الحديثة، وتابعنا ميكانيكيته في الانتشار السريع وآلية رسمه لامتداداته واتجاهاته المختلفة والمتعددة، والتي هي بالفعل تشبه سلوكيًا سرطان البحر.
أنتقل معك - عزيزي القارئ - إلى نقطة أخرى مهمة يجب التعرض لها وتوضيحها في هذه المقدمة، وهي أن الجسم البشري مكون من خلايا متعددة بل ومختلفة في احجامها واشكالها وطرق ترتيبها وهو الشيء الذي يتوافق مع طبيعة الوظيفة الحيوية التي هُيئت من أجل القيام بها في الجزء الموجودة - هي - فيه من أجزاء نظام الجسم البشري.
ملاحظة هامشية: حينما نتحدث عن مجموعة متشابهة من الخلايا في منطقة معينة من مناطق الجسم البشري فإننا نتحدث - في واقع الأمر - عن نسيج خلوي، وحدته البنيوية هي الخلية.
ونستطيع أن نضيف ونقول ايضًا - بشكل عام - بأن أي خلية في جسم الأنسان تتكون من جزئين رئيسين - ودون الدخول في بقية التفاصيل المتعلقة بتركيب الخلية - وهما النواة «في الداخل» والغلاف «وهو الطبقة المحيطة بالخلية والتي تُشكل حدودها الخارجية»، بل وأن المعلومات الرئيسة الخاصة بالخلية تكون محفوظة في نواتها وفي الجزء المعني منها وهو الحمض النووي. ويحتوي الحمض النووي على ستة وأربعين «46» كروموسوم، حيث يتألف كل كرموسوم من جينات مُتعددة يصل عددها إلى الملايين، تتكفل بشكل طبيعي وفطري بتحديد آلية العمل المسؤولة عنها تلك الخلية والتي تأتي تحت نظام محكم ودقيق.
الأمر الآخر والمهم ايضًا والذي يُمهد لفهم كيف يحدث السرطان «وأنا مضطر للخوض في هذه الشروح»، وهو أن تلك الخلايا تقوم بالانقسام بشكل طبيعي خلال دورة حياتها فتعوض التالف منها، حيث يتم ذلك عن طريق ما يُسمى بالانقسام الخلوي، والذي فيه يتم - أولًا - انقسام الحمض النووي فيها، ومن ثم تنفلق تلك الخلية «ثانيًا» إلى فلقتين، ليتم ولادة خليتين جديدتين متطابقتين في الصفات للخلية الأم، وهكذا دواليك. بل أن هذا الانقسام المنظم والدوري والدائم في نظام حياة الخلية هو الذي يبقي أجسامنا حية ومقاومة للتغيرات، بل ويسمح لها بالنمو وكذلك استبدال واصلاح التالف منها.
أننا وإذا ما فهمنا هذا الأمر نستطيع توضيح الأساس الذي عليه يبدأ الورم الخبيث وما هي ميكانيكيته.
من هنا نقول - وبعد ما تقدم من شرح - إن اختلال نظام الانقسام الخلوي الدقيق في آلية عمله يؤدي إلى ظهور خلايا مختلفة في صفاتها الشكلية والحجمية وكذلك عجزها عن القيام بوظيفتها الطبيعية وعدم تمكنها من التحكم في نظام الإصلاح والتعديل الموجود في حمضها النووي، فينتج ويتُكون ما يُسمى بالورم، والذي قد لا يكون خبيُثًا «يُسمى مجازًا في علوم الطب بالورم الحميد». وسنتعرض لهذه التقسيمات في أجزاء قادمة بمشيئة المولى عز وجل.
عزيزي القارئ، إن النقطة المهمة جدًا التي يجدر بنا أن نوضحها في مقدمتنا هذه ايضًا - خصوصًا بعد فهمنا بأن خلايا جسم الأنسان متعددة ومختلفة - هي أن السرطان مصطلح عام، فعند ذكر هذا المصطلح فإنه لابد وأن يتم توضيح الخلايا التي اصيبت به، حيث أن وجوده في نوع معين من الخلايا يعني اختلاف الكثير من المعايير المُتعلقة به سواء كانت في طبيعة أعراضه وعلامته أو في معدل أنتشاره وفتكه بأنسجة مجاورة وكذلك في طبيعة علاجه ومعدل الشفاء منه وغيرها من معايير طبية وكذلك بحثية دقيقة.
وعليه، فإنه يتم - في العادة - استخدام هذا المصطلح مقرونًا بموقع الإصابة من أجل الإشارة إلى خلايا معينة «تشكل نسيجًا» من خلايا جسم الأنسان بدأت تتصف بنموها وانقسامها بطريقة شاده، واضعين في الحسبان إمكانية عدم تقيد المرض بموقعه الذي بدأ فيه كإصابة أولية، حيث يحتمل أن يبدأ في الانطلاق من منطقته النسيجية إلى مناطق نسيجية مجاورة مختلفة فيدمرها، بل وفي مراحل مُتقدمة قد يصل إلى أنسجة خلوية بعيدة، أي غير مجاورة للموقع الأولي للإصابة». ويتم في العادة انتقال المرض من مكان لآخر عن طريق سوائل الجسم الداخلية المختلفة والتي تشمل الدم وكذلك الجهاز اللمفاوي وغير ذلك من سوائل لا يسعى المجال للخوض في غمارها بالتفصيل في هذه المقدمة.
إن ما ذكرناه - عزيزي القارئ - من ميكانيكية انتشار للخلايا التي فقدت سيطرتها على نفسها في عملية الانقسام يطلق عليه في عالم الطب بالورم الخبيث، وهنا نحن نُقدم محورًا متقدمًا في تقسيمة المرض بشكل عام.
وحتى لا أُطيل عليك - عزيزي القارئ - هذه المقدمة، والتي أردت من خلالها أن أضع قاعدة معلوماتية مبدئية تمهد لما نحن بصدده في هذا التحقيق، بل وتحتاج لإضافات تكميلية مماثلة في الأجزاء القادمة وقبل الخوض في عالم الأرقام، حيث أن الأرقام ستبين حقيقة ما نرمي له من تغير معياري لبعض الأنواع السرطانية في المنطقة، سأبدأ معك في الأجزاء القادمة بالتعرض لبعض من بيانات وخبايا هذا المرض على اختلاف أنواعه وماهية الأنواع المنتشرة لدينا في المنطقة وبما هو متوفر لنا من معلومات بيانية موثقة وتعريفات علمية معتمدة وبما يخدم الصالح العام على المستويين العلمي الخاص والتثقيفي العام.
وسيكون هذا التحقيق في سلسلة أجزاء تحمل عناوين مختلفة ستأتي جميعها تحت عنوان رئيس «كما هو الحال في تسمية هذا الجزء»، وهو: ”الأورام السرطانية: التنشؤات الخفية“، ومن ثم سيُصاغ له - وفي كل جزء - تعريف فرعي تكميلي يناقش طبيعة هذا المرض من زاوية محددة وخاصة.
انتظرني - عزيزي القارئ - في الجزء القادم والذي فيه سأناقش معك زاوية أخرى من زوايا هذا التحقيق، ”الأورام السرطانية: التنشؤات الخفية“، مستثمرًا ما وفقنا له من معرفة بالأدوات البحثية، والتي نعتمد عليها بمشيئة الله في تسليط الضوء بشكل أكثر سطوعًا على أهم الجوانب من هذا الداء.
دعائي للمرضى بالشفاء العاجل وللأصحاء بدوام الصحة والعافية...