الرجل الذي قبل يده طه حسين
طلب الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب بالجامعة المصرية من الشيخ عبد الكريم الزنجاني «1304 - 1388 ه» الذي كان في زيارة رسمية حافلة لمصر، طلب منه باسم الجامعة إلقاء محاضرة عن دراسة الفلسفة الإسلامية في النجف وإيران. وفي جمع غفير ازدحمت به قاعة المحاضرات بالجمعية الجغرافية الملكية بالعلماء والوزراء والأدباء والشخصيات الرسمية والشعبية الذين كان من بينهم الدكتور عبد الرزاق السنهوري عميد كلية الحقوق؛ ارتجل الشيخ محاضرة علمية رصينة عن تطور الفلسفة والفلسفة الإسلامية فيما يقرب من أربعين صفحة «بعد طباعتها لاحقا».
وبعد أن أنهى محاضرته تقدم إليه الدكتور طه حسين ”وقبّل يده وأظهر إعجابه الشديد بعلمه وفلسفته ونبوغه“ كما هو مذكور في كتاب: صفحة من رحلة الإمام الزنجاني وخطبه في الأقطار العربية والعواصم الإسلامية، محمد هادي الدفتر، مطبعة الغري، 1366 هـ 1947 م.
فمن هو هذا الشيخ؟
هو باختصار فقيه وفيلسوف من فقهاء وفلاسفة المسلمين، حاز على إجازتين بالاجتهاد من السيدين محمد كاظم اليزدي ومحمد الفيروزآبادي، ”ولعل كون العَلَمين البارزين السيد الخوئي والشيخ مجتبى اللنكراني من تلامذته، يعطي تصورا واضحا عما كانت تحويه حلقات درسه من عطاء ثرّ ورجال وعقول“.
كما كان مستوعبا لعصره ونتاجه العلمي خارج الدائرة الإسلامية أيما استيعاب، ناقدا لبعض ما فيه نقد المطلع الخبير، محيطا بالآراء العلمية والفلسفية المختلفة كآراء ديكارت وكانت ونيوتن وأينشتاين وتوماس مور وجون لوك وداروين وهيجل وإنجلز وماركس وفرانسيس بيكون وغيرهم؛ متصديا لنتاج بعض المستشرقين مناقشا رؤاهم بكل ما أوتي من فصل الخطاب.
وكان ينشر مقالاته في الصحف والمجلات في العراق وخارجه، وهو أسلوب لم يكن سائدا بين أمثاله من الفقهاء. وكان بالإضافة إلى كل ذلك يحمل بين جنباته روحا عظيمة، وعزيمة راسخة تحثه على ممارسة الإصلاح الديني مركزا على الدعوة للوحدة بين المسلمين، مؤكدا عليها في كافة محاضراته التي ألقاها في مختلف الأقطار التي جابها ببيان ساحر وبرهان ناصع، والتي جُمع بعضها في كتاب «صفحة من رحلة الإمام الزنجاني وخطبه».
فهذا الكتاب كما يقول ناشره: ”عبارة عن تأريخ رسالة إصلاحية كبرى ومواقف تاريخية فذة، وجلائل أعمال خارقة، ومجموعة من المحاضرات الإصلاحية العامة الشاملة في الشؤون الدينية والفلسفية والاجتماعية والأدبية استدعتها المناسبات الطارئة والحاجة العارضة أثناء الأسفار والرحلات التي قام بها الإمام الزنجاني إلى الأقطار الإسلامية من أجل الدعوة إلى الوحدة الإسلامية التي وقف سماحته نفسه من أجلها“.
سافر الشيخ الزنجاني إلى الهند وأفريقيا ومصر وفلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان وإيران وقفقاسيا وغيرها، واحتل فيها جميعا ”عروش القلوب، وقلوب الملوك وأدمغة المفكرين ورؤوس العلماء وأفكار الفلاسفة، ومشاعر الأدباء، وأذهان الأساتذة“ حتى خاطبه شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي بقوله: ووجدت فيكم مشرق علم وهداية تنظرون إلى ما يحيط بكم وبالإسلام والعلماء نظر المصلح الباحث المدقق ذي الأفق الواسع والعقل الراجح. وقال طه حسين: كنت إذا سمعت محاضرة الإمام الزنجاني نسيت نفسي ورأيتني في حياة غير الحياة التي أعهدها، وظننت أن ابن سينا حي يخطب.
كان الشيخ الزنجاني شخصية عظيمة فريدة بكل المقاييس، عرض عليه الأمير محمد علي رئيس مجلس الوصاية في مصر في ذلك الوقت مساعدة مالية كبيرة مستمرة كراتب يقوم بإنفاقه على الحوزة العلمية في النجف، فأبى، وامتنع عن ذلك بأدب جمّ حفاظا على استقلاله الذاتي واستقلال الحوزة عن نفوذ الآخرين. وكان رائده في عمله الإخلاص لله تعالى، لا يهمه حتى أن يسرق أحدهم رأيه أو عمله وينسبه إلى نفسه.
يقول: إني أزهد الناس في أن يعرف لي السبق إلى رأي من الآراء أو عمل من الأعمال، ويدفعني إخلاصي في العمل إلى أن أبيح للناس أن يأخذوا، وأن يستغلوا، بل أجد سعادة لا تعد لها سعادة حين أراهم يأخذون ويستغلون آرائي، وليس يعنيني أن يشيروا أنها لي، وإنما يعنيني أن أكون نافعا لهم وللجميع.
كان مثله جديرا بالاحتفاء والتبجيل والتكريم اللائق به، ولكنه في أخريات حياته لقي من مجتمعه ما آلمه من الصدود والهجران والحرمان، لأسباب عدة يجمعها الجهل بالعظماء ومكانتهم وقيمتهم، حتى مات بسبب سوء التغذية، ولم يطبع من آثاره التي تربو على السبعين إلا القليل جدا، بل ضاع بعض مخطوطاته كرسالته التي أسماها «نظرة في النظرية النسبية لأينشتاين».