محكمة التصورات
يؤمن الناس بالموت، ورغم شدة وضوح حقيقته لهم، إلا أنهم لشدة حبهم للحياة، ولتعلقهم بلذائذها، وبما ألفوه منها، ولما جهلوه عن غيرها وعنها، ولخوفهم من المجهول، يكاد الموت أن يكون مغيباً عن وعي الكثيرين منهم، منكراً في حياتهم، من خلال سلوكياتهم وممارساتهم، أو شبه منكرٍ، ولعل الذي أنكروا وكرهوا أفضل مما ألفوا وأحبوا وفضلوا، لكن هكذا مضت سنة الحياة على تفضيل الأحياء البقاء، وإنكار الموت أو كرهه، كي تستقيم لهم الحياة، وتستمر. ولولا ذلك الرفض الذهني لفكرة الموت، وما برمجت عليه الأجسام بيولوجياً، من ربط الألم والسعادة بكثير من الأضرار والمصالح التي تصيب الجسد، في القوائم البيولوجية المتوارثة، لكان الفناء أقرب للأحياء من البقاء.
وهكذا بالمثل في كثير من الأحيان، يضع الناس في حقائب تفضيلهم الفكرية والنفسية - من خلال خرائطهم الذهنية -، كما يوضع في قوائم تفضيلهم البيولوجية - من خلال الذاكرة البيولوجية -، الكثير من الأشياء والأفراد والجماعات، في قوائم ذهنية خاصة بما نفضل ومن نفضل، وبما نحب ومن نحب، وفي المقابل تكون هناك قوائم مضادة خاصة بأشياء أخرى بغيضة منبوذة مرفوضة منكرة ومحاربة.
هكذا هو الإنسان ذهنياً ونفسياً، قوائم من التفضيل والرفض، من الحب والبغض، من الإثبات والإنكار... الخ، سواءً توافق ذلك أم لم يتوافق مع الحقائق والمنطق والإنصاف.
لذا، لكي تعرف الإنسان، وتتعرف عليه جيداً، يجب عليك أن تترك في أحيانٍ كثيرة، موازين المنطق والحقائق، التي تدركها والتي يقرها العالم من حولك، وتفرضها قوانين الطبيعة، وما يقره العلم والعلماء، والعدل والإنصاف، وتتعرف جيداً على قوائم الحب والبغض، والرفض والقبول... الخ، الكامنة داخل طوايا الإنسان، أياً كان ذلك الإنسان، وأياً كانت قوائمه الخاصة، وأياً كان ما بنيت عليه، حتى لو كان ما بنيت عليه تلك القوائم، مجرد خرافات وتصورات ساذجة وخيالات وأوهام، فالإنسان الذي ستواجهه وتقابله وتتعامل معه في النهاية، هو منتج لذلك الخيال المكتنز في داخله، بل هو ذلك الخيال المكتنز، دون أدنى شك.
إن هذا الفرز النفسي العاطفي، والفرز المبني على التخيلات أو التصورات المطابقة أو المخالفة للواقع، الذي تواجهه عند البشر، إنما هو من الجهة الأولى الناظرة للفرد مصدر الفرز ذاته، أحد أمرين: فإما أن يكون مساعداً ومعيناً وخطة نجاح، أو مرضاً وآفة وخطة دمار. كما أنه من الجهة الأخرى الناظرة للآخرين الذين تعاملهم، إما أن يكون قداساً أعد للتمجيد والتعظيم ولمحاباة وتقديس من نحب، دون مبررات حقيقية صادقة على أرض الحقيقة والواقع، أو أن يكون محكمة تصفيات وإعدامات وضعت لتصفية آخرين وقتلهم معنوياً ونفسياً، بل ربما أيضاً جسدياً وواقعياً، بعيداً عن موازين المنطق والإنصاف.
وأنت أياً كنت أيها الإنسان، ستكون عرضة لأن تصبح، عند أي فردٍ في هذه الحياة، في قوائم الحب والقرب، أو قوائم الكره والبغض والإقصاء، بصورة ما، وسيكون ذلك في كثير من الأحيان دون أسباب حقيقية منصفة وواقعية. وستجد حتماً في هذه الحياة، أن هناك أناساً يتصورونك بصورة سيئة تجعلهم يعاملونك معاملة سيئة دون أن تكون قد تصرفت تجاههم واقعاً بطريقة مسيئة أو دون ما يكفي من مبررات تحقق الإساءة، لكن فقط ستجد أن هؤلاء قد وضعوك بطريقة ما في قوائم الكره والبغض أو قوائم الإقصاء وعدم التفضيل. وستجد أن هناك آخرين تعرفهم أو لا تعرفهم يعاملونك بلطف ومحبة ويتصورونك بصورة جميلة أو مثالية دون مبررات كافية لتصورك كذلك، وقد تجد أن هؤلاء أحياناً هم هكذا مع الكل، فهم ممن يصورون الخلق دائماً أو غالباً بصور جميلة، فيعاملون الكل بلطف وتسامح ومحبة، إلا من خرج باستثناء، فتجدهم معك كذلك، دون أن يكون في سلوكك معهم ما يكفي لتبرير، أو ما يكفي لفهم وتفسير، طبيعة سلوكهم معك. وهكذا قد تكون أنت أيضاً مع الآخرين، غامضاً في سلوكك مع الآخر بنفس الطريقة، بحيث لا يمتلك الآخر تفسيرات واضحة ومقنعة لتصرفاتك، تفسر وتوضح طبيعة سلوكك وممارساتك.
وتمضي الحياة، ويمضي الناس في حياتهم، نحو ترسيخ سلوكيات الحب والبغض والقبول والرفض، وينطلقون مغمورين في ظلمة السلوك المبهم مع إستدامة قوائم التفضيل وقوائم الكره دون مراجعات، مهما إمتد بالناس الزمن، ومهما ألحت عليهم الحاجة والظروف للمراجعات، في مواقف الحياة المختلفة والمتنوعة، ليظهر لنا الإنسان الذي نتعامل معه في النهاية، ككائن مبرمج مسبقاً مغيب عن الوعي، يبقي نفسه غالباً أو دائماً حبيساً في خندقٍ واحد من قوائم التفضيل وقوائم الرفض دون أن نعلم السر، بحيث لا يعلم حقائق سلوكيات الفرد ومنشأها وبواعثها عبر خط الزمن غالباً إلا الله سبحانه، وبحيث قد يجهل طبيعة سلوكيات الفرد تجاه الآخرين على حقيقتها حتى الفرد نفسه، ومع ذلك يمكننا أحياناً أن نضع أيدينا على مفاصل مهمة تساعدنا في حل ألغاز وفهم أسرار بعض ما خفي من جذور بعض تلك السلوكيات وبعض تلك القوائم المكتنزة من التصورات المدفونة داخل الفرد.
ومن ذا، أنك تجد في هذه الحياة، أن بعض البشر يحترم علاقة الدم والنسب لأقصى حد، مقاتلاً بعنف، بعيداً عن قواعد المنطق والرياضيات، من أجل الحفاظ على علاقة جيدة متينة مع أهله وأقاربه، حتى أنك تجد هذا الصنف أعمى تماماً عن عيوب الأقارب، حتى عندما يساء إليه وتهضم حقوقه - وكأنه قد حاز رتبة أبوية -. أما البعض الآخر من البشر على خلاف ذلك، فلن تعني له صلة القرابة ورابطة الدم والنسب تلك الكثير، ولن يقاتل من أجلها، بل من أجل بعض نزواته ورغباته وتصوراته، فتجد أن كل ما يشغل البعض في هذه الحياة أحياناً، هو الحسد والتحاسد والإساءة والتباهي، ومهما بذلت في حب هؤلاء ونصحهم ومودتهم، فستجدهم معادين لك، لا تصدر منهم إلا سلوكيات العداء والإعتداء، الظاهر الواضح أحياناً، أو المستتر والمبطن في أحيانٍ أخرى، لذا فقد توضع في قوائم البغضاء والحسد عندهم، مهما كنت لطيفاً، ومهما كانت صلة القرابة والنسب ورابطة الدم بينك وبينهم، أو على خلاف ذلك، قد توضع عند آخرين، في قوائم الحب والإحترام، بعيداً عن مبررات الواقع.
هكذا تجري المباراة على أرض الواقع في كثير من الأحيان، وستجد أن سلوك الكثير من الناس في بعض جوانبه أو كثيرٍ منها، لا يتكيء على كثير من المنطق، بل ستجد أن تفسير سلوك الناس كثيراً ما يصطدم بالواقع ليصبح أحجية صعبة عصية على الحل، يستحيل فيها - إذا تصورنا أن سلوكياتنا فقط هي سبب سلوكيات الآخرين معنا فحسب - أن نعرف بناء على توازنات منطقية بحتة تغفل اختلاف الدوافع النفسية والسلوكية الفردية والجمعية، لماذا يحبنا فلان؟ ولماذا يبغضنا فلان؟ ولماذا لا يحبنا هذا؟ ولماذا يكرهنا ذاك؟ ولماذا تحبنا هذه الجماعة؟ أو تكرهنا تلك؟.
إننا ببساطة، رهناء للخيال، ولتصورات الناس عنا وعن الحياة، أياً كانت علاقة تلك التصورات بالصواب والخطأ. ولذا ستجد في الواقع الكثير من التحيزات الظالمة وغير المنطقية، التي لا تنطلق من حقيقة خارجية، بل من مبررات داخلية خاصة بأصحابها، سواءً كانت واضحة بسيطة أو غامضة وعميقة.
وهكذا تستمر دوافع السلوك المبهم عند البشر في تعددها وتنوعها، فتجد أن بعض البشر يعاملك من خلال عقده النفسية فحسب، أما البعض الآخر فسيعاملك من خلال عقيدته أو ميوله العقائدية الحالمة أو الظالمة، التي لم تصنعها يوماً، ولم يكن لك في أي يومٍ من أيام الله دخل في وجودها أساساً، ولا في بقائها أو زوالها أو نقائها أو انحرافاتها أو تشوهاتها، وستجد أن البعض الآخر يعاملك من خلال نزعاته العاطفية وبعض حاجاته النفسية، ليلقي بالملامة عليك دائماً وفق تفسيرات مغلوطة ظالمة متصلة بها، دون أن يدرك غالباً حقيقة عواطفه وأحكامه وتصوراته وميوله وتشوهاتها وتشويهاتها للواقع. وهكذا أيضاً تتنوع النماذج وتتوسع فنجد أن بعض الناس يعاملنا من خلال هواياته الشخصية، فيربطنا رفضاً وقبولاً وفهماً وتفسيراً عنوة بها، أو ببعض احتياجاته المادية، لذا فقد تجد نفسك حبيباً عند المصلحة قريباً عند وجودها، بغيضاً بعيداً عند زوالها أو بعد إنتفائها، تتموج بك سلوكيات ومعاملة الآخرين بحسب ما تتموج به الخيالات والأوهام الحبيسة في جماجم هؤلاء ورؤوسهم وصدورهم.
وسيكون حالك مع بعض البشر، إذا إنكسرت الكأس التي في يده، أو إذا أخفق في مشروع يديره، أو فشل في الوصول لهدف يطمح إليه، أو إنكسرت رجله، أو اعتل عضو في جسمه، أو انطفأ السراج الذي في منزله، وتضخمت عنده أوهام الحسد والحاسدين في رأسه، وتطير كما يتطير المتطيرون عادة، أن تجده يسارع لقوائم الحب والبغض، التي يختزنها في شريحة دماغية ما في جمجمته، وحينها ربما وجدك ملقاً فيها، فاختارك عبطاً وجهلاً بلا مبررات منها، ليلقي عليك باللوم فيما يحصل له أو معه، أو فيما يقع عليه، وذلك فقط بسبب أنه قد وضعك في قوائم من لا يحب أو من يكره بطريقة ما، طريقة ربما صنعها فقط نوعٌ تافه من الجهل أو سوء الفهم فحسب، ثم بعد ذلك سيرتب هذا بناء على ذلك الفرز المزيد من الأثر والتبعات وسلوكيات العداء. وكما أن البعض يتشاءم ويتطير بجهل وجهالات، فإن بعضاً آخراً من الناس، قد يتبارك ويبارك آخرين جهلاً وتوهماً وتخبطاً، فيفضلهم ويهبهم في ذهنه هالة رهبة ومحبة عظيمة، ومنزلة مباركة خاصة، تجعلهم مبعث الخير ومصدر البركة ومنبع النفع والسرور بالنسبة له، في حين قد يشهد الواقع على خلاف ذلك لمن يبصر، لتجد أنهم أفقر الناس وأحوجهم لجلب النفع وتحصيل الخير وطلب البركة ودفع الضر ومنع الشر، لكن البعض منا نحن البشر، يتطير عبطاً بأناس، ويتبارك جهلاً بآخرين، وفق ما إكتنزت نفسه من صور موهومة، وبما يصنعه جهله، ووفق ما برمجت سلفاً عليه روحه من نشوة عند هذا، أو ظلمة عند ذاك.
إن الموضوعية ببساطة مفقودة في هذه الحياة، في كثير من مواقفها، وفي تصورات وعقلية الكثير من الناس، مهما بدى لنا بعض الناس عباقرة أو أذكياء ومنصفون.
وهذا يذكرنا في الحقيقة بقصة لطيفة تروى لشيخ الفكاهة جحا وإبنه مع الحمار، حين كان الركوب والمشي عيباً وعاراً عند الناس، وكل الخيارات مرفوضة، فالناس لن ترضى عنك وعن إبنك إن ركبتما حماركما، كما أنهم لن يرضوا عنكما أيضاً لو تركتما ركوب الحمار ومشيتما بجانبه رحمة به، ولن يرضيهم أيضاً ركوب أحدكما ظهر الحمار وترك الأخر يمشي على قدميه، فتصورات كثير من الناس دائماً أو غالباً ما تكون شرسة وعدوانية، غير منصفة، ولا ترحم، إلا ما شاء الله. ولذا ستجد أن الكثير من الناس، يبدلون منطقهم وحججهم معك بحيث لا تتبدل مواقفهم منك مهما تبدلت وتنوعت الظروف ومواقف الحياة، وذلك دوماً فقط رغبة في الإذلال والإنتقاص، أو خلافاً لذلك تتبدل الحجج والبراهين رغبة فقط في تبرير كل سلوكياتك وأفكارك وممارساتك.
إن محكمة التصورات قاسية جداً، أو مائعة ومحابية جداً، ولا تعرف الإنصاف والمنطق. وتصورات البشر من حولنا ليست تصورات ذهنية حبيسة أذهان الناس فحسب، ليمكننا أن نعيش معها بسلام، متغافلين ومتجاهلين لها، بلا مسؤولية عنها أو تجاهها، لنتخلص منها بمجرد إهمالها وتجاهلها وتركها تمضي، وترك الزمن ليمحوها، أو بمجرد تجاهل البشر الخاطئين وتصوراتهم الخاطئة عنا. إن تلك التصورات لها تبعات وأحكام والتزامات واقعية، يتم تفعيلها على أرض الواقع. فأين المفر من محكمة التصورات تلك إذاً؟!.
إنها رقعة الشطرنج الصعبة، التي نمشي داخلها، والتي تتحرك فيها أحجار العواطف والأوهام والأحقاد والأنانيات معاً مع حركتنا، ووفق قواعدها الخاصة، التي تريد أن تقضي علينا وأن تشطب هويتنا الحقيقية، وتدمر مصالحنا، سواء راقت تلك المحكمة واللعبة لنا، أم لم ترق لنا.
عزيزي القاري، ببساطة في محكمة تصورات الناس عنا، لا يمكنك أن تتكيء على أخلاقياتك ونزاهتك وعقلانيتك فقط، لتستجدي الإنصاف والعدل والحكمة والرحمة، بل عليك أن تفهم طبيعة الواقع المعاش لتعيش مع أوهام الناس وتصوراتهم ومصالحهم في تناغم بأشد وأدق وأقوى درجات الحذر والحنكة والفطنة والحكمة، فعالمنا لا يرحم الطيبين والبسطاء والخيرين فقط لأنهم بسطاء أو خيرون أو طيبون، فكن على حذر في هذه المحكمة المليئة بالمزورين والوشاة وبالمحاباة وقضاة الزور، كي تسلم من خطر سوء التصورات وما يترتب عليها من آثار، فالتصورات قرارات... وانتهى الأمر.