ملحمة كنتُ شاهدها
مقدمة: طلب مني أخي وعزيزي الحاج أمير البراك أن ألقي كلمة شكر ليلة ختام فاتحة زوجته، نيابة عنه وعن عائلتي الحرز والبراك، فكانت هذه الكلمة:
ملحمة واقعية كنت أحد شهود عيانها، ملحمة أبطالها أناس عاديون بحسب المقاييس الاجتماعية السائدة، ولكنهم استطاعوا أن يجسدوا بصدق وعفوية ملحمة عنوانها الصبر والوفاء، وما أحوجنا لهاتين القيمتين الساميتين في هذا الزمن الصعب.
محور الملحمة الحاجة نعيمة أحمد سلمان الحرز ( أم حسين ) التي أصيبت بالمرض العضال الذي انتشر في منطقتنا حتى أصبحت الأعلى نسبة على مستوى المملكة. ومع كل ما يحدثه هذا المرض من زلزال نفسي عند كثير ممن يصاب به، إلا أنها كانت قوية الإيمان، صابرة محتسبة، لم ترفع راية اليأس أبدا، كانت ترى فيما أصابها ابتلاء واختبارا لا بد من اجتيازه بمرتبة الشرف، ولذا كانت تكثر من قول: اللهم لك الحمد حمد الشاكرين لك على مصابهم، الحمد لله على عظيم رزيتي، الوارد في زيارة عاشوراء.
هكذا استدعت الحسين ( ع ) ونعم المستدعى في الملمات، فأعطاها الحسين ما أعطى، أعطاها الصبر والثبات حتى آخر كلمة نطقت بها: امسحوا على صدري بتربة الحسين. إنه الارتباط بأهل البيت عليهم السلام والانتهال من مدرستهم، والتشرف بخدمة مجالسهم.كانت تتطلع بشوق غامر لليوم الذي تستقر فيه في بيتها الجديد، قائلة لشقيقتها الكبرى أم أحمد: سأعيد مجلس القراءة الأسبوعي الذي كانت تقيمه والدتنا رحمها الله فور عودتي من سيهات.
أعطاها الحسين، ولم تبخل عليها زينب، فأتقنت الصبر حتى لم تكن ترغب أن يشعر أحد بآلامها ومعاناتها، وكانت تصر أن تجري الأمور حولها بشكل طبيعي كأنها غير مريضة، ولذا كتمت أوجاعها بكل ما أوتيت من قوة تحمل، طلبت من زوجها أن لا يتأخر عن إتمام مشروع البيت رغم الظروف الصعبة، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، حيث ألحت على ابنها الأكبر ( حسين ) أن يخطب ويتم عقده، رغم سوء حالتها الصحية. تحملت الآلام ولم نسمع منها غير كلمات الرضا، فختمت حياتها بزيارة الإمام الرضا بعد زيارة الحسين وهي في أحرج الحالات، ذهبت للرضا لتردد مع الزائرين: اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك مولعة بذكرك ودعائك محبة لصفوة أوليائك محبوبة في أرضك وسمائك صابرة على نزول بلائك شاكرة لفواضل نعمائك ذاكرة لسوابغ آلائك مشتاقة إلى فرحة لقائك متزودة التقوى ليوم جزائك مستنة بسنن أوليائك مفارقة لأخلاق أعدائك مشغولة عن الدنيا بحمدك وثنائك.
نجحت في الاختبار، وكان لها شركاء في النجاح، في مقدمتهم زوجها المؤمن الصابر أخونا الحاج أمير البراك، الذي كان في غاية التسليم وقمة الوفاء، لم يتركها لحظة واحدة، تفرغ لها تماما، رافقها في سفرها للعلاج، وقف بجانبها كما وقفت بجانبه من قبل، كان مستعدا لتقديم كل التضحيات من أجل شفائها، وأثناء علاجها في مستشفى الظهران كان يمضي الساعات الطوال معها من الصباح حتى نهاية الزيارة في المساء، يواسيها بالدعاء وتلاوة القرآن وكلمات الحب التي يتفنن في ابتكارها، كان دائما أول الداخلين عليها وآخر الخارجين من عندها، وكان أخيرا آخر المودعين.
شريك آخر من شركاء النجاح ابنتها الغالية أميرة، التي كانت بالفعل أميرة الوفاء لأمها، تشرفت بخدمتها في البيت طيلة فترة مرضها، وكانت مرافقتها في المستشفى لأربعين ليلة تقوم برعايتها وكافة شؤونها بكل محبة وخفض لجناح الذل من الرحمة. بالطبع ما كان لها أن تقوم بهذا الدور خير قيام لولا مساندة زوجها وابن خالتها أحمد الذي شجعها وآزرها وكان لها نعم العون في الظرف العصيب.
شركاء النجاح كثيرون لا أستطيع أن أتوقف عند أدوارهم واحدا واحدا لأن المقام سيطول، لذا أعتذر لكل شريك في النجاح عن تقصيري في الإشارة لدوره، إذ كيف لي أن أتحدث عن موقف أبيها أو أعمامها أو إخوانها أو أخواتها أو بناتها أو من يلوذ بهم، أو المتعلقين بزوجها من أب وأم وإخوة وأقربين، ولكل من هؤلاء موقف مشرف ودور مؤثر.
وقد كنتم أنتم أيضا شركاء في النجاح من خلال سؤالكم واتصالاتكم ومواساتكم وزياراتكم ودعواتكم التي لم تنقطع أبدا منذ بدء المرض حتى بعد الوفاة، وما التشييع المهيب الذي حظيت به رغم حرارة الجو ورطوبة الطقس، وما حضوركم الحاشد في أيام الفاتحة إلا تتويج لمشاركتكم في ملحمة الصبر والوفاء.
فالشكر لكم، الشكر لكم، الشكر لكم.
الشكر لأصحاب السماحة والفضيلة سادة ومشايخ الذين كان لوقفتهم أعظم الأثر في نفوسنا، الشكر لأهلنا الطيبين من خارج بلدتنا الذين شاركونا بالمواساة الصادقة التي لن نوفيها حقها، الشكر لأهل هذه البلدة الطيبة التي تعجز كلماتنا عن مجاراة مواقفهم النبيلة المشهودة لدى القريب والبعيد.
فطوبى لنا بكم.. نسأل الله أن لا يريكم مكروها في عزيز لديكم، وأن يجمعنا على الخير دائما، وأن نواصل معا صناعة الملاحم الإنسانية كما ساهمنا جميعا في صنع هذه الملحمة.
اللهم لك الحمد حمد الشاكرين لك على مصابهم.. الحمد لله رب العالمين.. وصلى الله وسلم على من بهم يجبر المهيض ويشفى المريض.. صلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.