وجع تحت الشمس
في ذلك اليوم الحارق، كانت الشمس كأنها تصبّ لهيبها على رؤوس المارة، لا ترفق بصغير ولا كبير. وقف ناصر إلى جوار والده العم صالح، ذاك الرجل المنهك، المنكسر الجسد، الذي أنهكه الفشل الكلوي حتى غدا صديقًا دائمًا لغسيل الكلى، ثلاث مرات في الأسبوع، ثلاث مرات تُنتزع فيها بقايا قوته، ثلاث مرات يتمنى لو أن جسده كان أقوى، ولو أن الحياة أقل قسوة.
المواعيد تتكرّر، ولا شيء يتغيّر. كل أحد، كل ثلاثاء، كل خميس… تشرق الشمس كأنها تراقب معاناته، وهو يخرج ملفوفًا بالصمت، مغموسًا بالأدعية، يتوكأ على صبره ويبحث عن سيارة أجرة تقلّه إلى قدره المحتوم.
كان الأب جالسًا على كرسيه المتحرك، يحدّق في شاشة هاتفه بصمت ثقيل، عينه تتشبث بالأمل، وكأن مكالمة واحدة كفيلة بإنقاذه من عذابات الطريق، ومن لهيب الشمس، ومن الانتظار المرهق، ومن إذلال السؤال.
قال الابن، بصوت يغلفه القلق:
- أبي، هل تعتقد أنهم سيوفرون لنا سيارة؟ لقد تأخرنا كثيرًا.
أجابه الأب بهدوء يشبه الانكسار:
- نعم، وعدني الباحث الاجتماعي، قال إنه سيهتم بالأمر، أخذ كل بياناتي، وعرف كم نعاني، حتماً سيوفر لنا السيارة.
سكت الابن لحظة، ثم قال بصوت منخفض:
- لماذا لا نصلح سيارتنا القديمة؟
نظر إليه الأب نظرة حملت خليطًا من العتاب والألم، وقال:
- لا يا بني، لا أريد إصلاحها. أنسيت ما كنت تفعله بها؟ كيف كنت تعبث بها مع أصدقائك، التفحيط والمخاطرة؟ لا أريدها.
صمت الابن، نادمًا، عاجزًا عن الرد، وقد لامس قلبه حجم الخطأ الذي ارتكبه في زمنٍ مضى.
مرّت لحظات، ثم جاء أحد الجيران مسرعًا، كان رجلاً في منتصف العمر، قلبه طيب، وعيناه مليئتان بالشفقة. قال وهو يلوّح بمفتاح سيارته:
- عمي صالح، هيا، سأوصلكم بنفسي اليوم، لا يصح أن تبقوا في هذا الحرّ.
نظر إليه الأب طويلًا، ثم أطرق رأسه وقال بصوت خافت:
- أشكرك يا ولدي… جزاك الله خيرًا… لكن لا، لا أريد أن أرهق أحدًا، إن شاء الله، قريبًا ستصلنا سيارة من الجمعية، وعدوني، وأنا أصدقهم.
تردّد الجار لحظة، ثم قال بأسى:
- كما تشاء، عمي… أنا بالخدمة في أي وقت.
غادر وهو ينظر إلى الأب بعينين تخفيان الحسرة.
بقي الاثنان واقفين، تحت أشعة الشمس التي لم تعرف الرحمة. الوقت يمرّ، والمركز ينتظر، والحرّ يزداد قسوة. كانت ملابس الأب قد التصقت بجسده، والكرسي المتحرك بات وكأنه يغلي تحت جلده.
قال الابن وهو ينظر إلى وجه والده المتعب:
- أبي، لقد تأخرنا كثيرًا عن موعد الغسيل… اتصل بالباحث واسأله، متى ستصل السيارة؟
أجابه الأب وهو يغالب أنفاسه:
- لو حصلنا على سيارة، نوفر ألف ريال شهريًا… نستطيع بها سداد بعض الديون، وربما نبدأ بترميم البيت.
«وتنهّد، كأنه يحاول أن يخنق الوجع داخل صدره.»
رد الابن متحمسًا:
- نعم، وبعد الترميم نرتّب الغرفة لأختي الصغيرة، ونشتري لأخي حقيبة المدرسة!
ابتسم الأب ابتسامة حزينة، كأنها تود أن تعانق الأمل لكنها تخشى الخذلان.
ثم قال، متنهداً:
- سأتصل… سأتصل.
بدأ الأب يضغط بأصابعه المرتجفة على أزرار الهاتف. رن الجوال. ارتفعت دقات قلبه مع كل رنة، كأن قلبه يركض قبل صوته.
- إنه يرن، قال الأب، وكأن صوته تمسّك بآخر خيوط الرجاء.
جاء الصوت من الطرف الآخر:
- من المتصل؟
رد الأب بصوت خافت:
- صالح… أنا صالح، مريض الكلى… زرتني الأسبوع الماضي لتوفير وسيلة نقل إلى مركز الغسيل.
ساد صمت لثوانٍ، ثم جاء الرد كطعنة باردة:
- آه، تذكرتك. لكن يا عمي… نسيت أخبرك… منطقتك خارج نطاق خدمتنا. لا يمكننا مساعدتك.
تجمّد الزمن.
سقط الهاتف من يد الأب، ارتطم بالأرض كارتطام الأمل حين يسقط من عليائه.
وانسابت دمعة على خده، صامتة، خجولة… لكنها كانت أبلغ من كل الكلمات.
كانت دمعة رجل لم يعتد الشكوى، لكنه يختنق من الداخل.
رجل ظلّ يقاوم بصمت، ينتظر بشموخ، ويخبئ انكساراته خلف حروف الأمل.
في تلك اللحظة، لم يكن الألم في الجسد، بل في الروح…
روح استنزفتها الوعود، وأتعبها الانتظار، وكاد الإيمان أن يتصدّع تحت ثقل الخذلان.
تأمل ناصر وجه والده، فرأى وطنًا كاملاً من الكرامة يُغتال أمامه،
ورأى الشمس لا تلسع الجلد فقط، بل تحرق الحلم قطعةً قطعة.
لم يتكلم. لم يحتج. لم يصرخ.
لكن دموع الأب، ووجهه الذي مالت فيه الملامح بين الصبر والوجع،
كانت كلها صرخة مدفونة في صدر الحياة، لا يسمعها أحد.