قراءة في كتاب .. المُبتعثون طمُوح التنميَة والتقدُم
لا يختلف اثنان حول مدى أهمية فكرة الابتعاث كونها خطة استراتيجة لتنمية وتقدم المُجتمعات, وأن المبتعثين هُم ثروة كبيرة للوطن لا تُقدر بأموال ما إن تم استغلالها بالشكل الصحيح والمطلُوب .. ولنَا أسوة حسنَة في تجارب الابتعاث الناجحة كاليابان وماليزيا.
ومِن هذا المُنطلق كُنت دائماً ما أُركز في حديثي مع الأصدقاء على ضرورة وجود اهتمام واضح بالمبتعثين ليس فقط من قبل الدعم الحكومي, وإنما حتى من قبل العلماء والمثقفين والأكاديميين في الوطن من خلال المحاضرات, الندوات, المقالات, الاصدارات و أوجه أخرى كثيرة لهذا الاهتمام الذي يصبُ في دراسة وتحليل وتوجيه المُبتعثين.
سماحة الشيخ حسن بن موسى الصفار .. جعل لهذا الاهتمام نصيب من وقته, من خلال المحاضرات والزيارات المُتبادلة للمُبتعثين وآخرها كان إصداره لكتاب " المُبتعثون .. طمُوح التنميَة والتقدُم ". وهُنا سأحاول التطرق إلى بعض ما جاء في هذا الكتاب .
يُؤكد الكاتب في مستهل حديثه على أن التنمية والالتحاق بركب التقدم والتطور يجب أن تكُون هماً مُشتركاً بين الحُكام من خلال القرار السياسي وبين المواطنين أنفسُهم من خلال التفاعل الاجتماعي.
" فإن ضعف تفاعل المواطن, وانخفاض مستوى فاعليته, يعوّق نجاح ذلك البرنامج, ويؤدي به إلى الفشل والإخفاق. وإن مسؤولية التنمية والنهوض تقع على عاتق كُل فرد من أبناء الأمة, كلٌ حسب موقعه وقدرته وإمكانه, فهي واجب عيني وليست واجباً كفائياً يسقط بقيام فئة به عن الجميع؛ لأن طبيعة واجب التنمية لا يتحقق أداؤها إلا بمشاركة عامة ".
ثُم يؤكد أيضاً على أهمية برامج الابتعاث من خلال نجاحها بدعم مسيرة التقدم والرقي في المجتمعات المعاصرة كاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها.
ويُشدد الكاتب على أن نجاح مثل هذه البرامج مقرون بوجود خطة استراتيجية مدروسة في اختيار الجامعات, والتوجيه للتخصصات, وإتاحة الفرص المتكافئة للطامحين من أبناء الشعب وفق مقاييس وضوابط موضوعية. أيضاً تأهيل الطلاب المبتعثين قبل ابتعاثهم, ثُم المتابعة الجادة من قبل وزارة التعليم العالي وملحقياتها الثقافية, بتفقد أوضاع المبتعثين, وتواجد خُطة لاستيعاب المتخرجين من المبتعثين؛ بتوفير فرص العمل لهم في مجال تخصصاتهم واستثمار كفاءتهم كُلها عوامل مُهمة وأساسية في إنجاح هذا البرنامج.
ثم يُنبه الكاتب الطالب المُبتعث بأنه العنصر الأساس في إنجاح برنامج الابتعاث من خلال الجدية في استثمار هذه الفرصة بالاجتهاد الدراسي والاستفادة من الوقت.
في نهاية المقدمة يوضح الكاتب, على أن هذا الكتاب هُو نتاج لمجموعة من المحاضرات و لقاءات مع المبتعثين في مدن مختلفة من الولايات المتحدة الأمريكية.
يبدأ الكاتب الفصل الأول, بالتركيز على أهمية طلب العلم بمعناه الشامل الواسع, على المستوى الفردي وعلى مستوى الأمم والمجتمعات, حيث أنه عامل أساسي في تقدم الحضارة البشرية ويُدلل ذلك بحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم).
بعد ذلك أخذ يستحظر عصر نهضة الحضارة الإسلامية, حيث كانت البعثات من الغرب إلى الشرق في قرطبة وبغداد ودمشق على عكس الحال اليوم.
" كان التحاق أبناء علية القوم في أوروبا بالمعاهد العربية الإسلامية أمراً مألوفاً في تلك العصور, وممن تلقوا العلوم في هذه المعاهد الملك الفونسو السادس, وفريدريك الثاني الذي يُعتبر إمبراطوراً لروما سنة 1215 م ".
حركة الابتعاث العلمي .. يُبين الكاتب هُنا أهمية الابتعاث على مستوى دول العالم من خلال إحصائيات لليونيسكو, حيث يوجد في العالم مايُقارب من ثلاثة ملايين طالب يدرسون خارج أوطانهم في مختلف بلدان العالم, بما فيها الدول المتقدمة والنامية كالولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين.
ومن الفوائد الأخرى للابتعاث يقول الكاتب:
" فالطلاب الذين يدرسون خارج بلادهم, ينقلون شيئاً من ثقافة بلادهم إلى تلك المجتمعات, ويأخذون من ثقافة البلدان التي يدرسون فيها إلى بلدانهم ومجتمعاتهم, مما يُشكل جسراً للتواصل الثقافي, والتبادل الحضاري بين المجتمعات ".
في إشارة واضحة منه؛ لأهمية استثمار الابتعاث في التبادل الثقافي والمعرفي بين هذه المجتمعات المُبتعث إليها الطالب وليس حصر الابتعاث على النتاج الأكاديمي فقط.
يعُود الكاتب بالتركيز على أن المُجتمع عامل مُهم لإنجاح برنامج الابتعاث:
" والمجتمع أيضاً يجب أن يُدرك قيمة الاستثمار في العلم, وأهمية الابتعاث إلى الخارج, وأن يكون له دور, أي رب عائلة يجب أن يعرف أن مصلحته ومصلحة ذريته, ليس في بناء العمارات والعقارات, حتى إذا مات يخلف لأبنائه وأسرته أراضي وعمارات, وأسهم في البنوك والشركات, بل الأهم لأبنائه ولمجتمعه هو الاستثمار في العلم, إن بعض العوائل بالرغم مما تمتلكه من الخير والثروة لا تبادر إلى ابتعاث أبنائها ".
أيضاً يؤكد الكاتب على هذا الاهتمام الاجتماعي بالمبتعثين, من خلال اقتراحه بإنشاء مؤسسات أو لجان تهتم بمتابعة شؤون الطلاب المبتعثين من خلال زيارتهم وتفقد أحوالهم وتشجيعهم وتأصيل روابط التواصل بين المجتمع وأبنائه المُبتعثين, وإن جولة أي عالم لتفقد أوضاع الطلاب المبتعثين قد لا تكلف أكثر من مصرف مأتم أو مجلس من المجالس الكثيرة في بلادنا.
إلى طلابنا المبتعثين .. هنا يُوجه الكاتب حديثه إلى الطلبة المبتعثين أنفسهم من خلال بعض النصائح والتوجيهات الأساسية من الاجتهاد الدراسي إلى الالتزام بالقيم الدينية والأخلاقية وعدم الانهيار أمام الصدمة الحضارية وبنفس الوقت الاستفادة من إيجابيات تلك المجتمعات وألا تقتصر المسألة على الدراسة فقط. ويختم هذه النصائح الأبوية بقول الإمام الصادق – عليه السلام -: (إنكم قد نسبتم إلينا كونوا لنا زيناً, ولا تكونوا علينا شيناً).
" عليهم أن يدعموا بعضهم بعضاً, وأن يتعاونوا, ويتركوا الخلافات والفروقات الموجودة في بلداننا ومجتمعاتنا, لأسباب مذهبية أو مناطقية أو مرجعية وثقافية, يفترض في أبنائنا وبناتنا هناك أن يتجاوزوا هذه الحالات, وأن ينفتحوا على بعضهم, وأن يتسفيدوا من تجاربهم, ويتداولوا التجارب, ويرفعوا معنويات بعضهم بعضاً ".
يبدأ الكاتب الفصل الثاني والأخير بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – عليه السلام -: (الحكمة ضالة المؤمن, فاطلبوها ولو عند المشرك, تكونوا أحق بها وأهلها) في إشارة واضحة على أن الشرع حث على طلب علوم الحياة بشتى مجالاتها. العلوم التي تُمكن الانسان من تنظيم حياته بصورة أفضل, ويمكنّه من أن يحقق هدف وجوده في هذه الحياة, فإن الله إنما خلق الإنسان في الحياة لكي يقوم بمهمة إعمار الأرض, بل حتى يؤكد الكاتب على أن طلب العلم من العبادات وهو من صفات المؤمن الحقيقي.
الانفتاح على تجارب الأمم.. يُصنف الكاتب هُنا حالات انفتاح المجتمعات الإسلامية على باقي الأمم ضمن ثلاث خيارات, فإما الانبهار بها والسير على نهجها بغض النظر عن معتقداتنا وقيمنا, أو خيار القطيعة بحجة أنهم ليسوا على ديننا وبأننا نُهينا عن التشبه بالكفار, أما الخيار الثالث الجمع بين الأمرين التواصل والتداخل الإيجابي مع الأمم المتقدمة مع الالتزام بديننا؛ لأن قيم ديننا الحقيقية لا تتنافى مع هذا التطور والتقدم العلمي, بل إنها تدفع إليه. يقول الكاتب هُنا:
" علينا أن نتأكد من فهمنا للدين, ولعل الدين كما يفهمه البعض الآن, يختلف عما فهمه الأسلاف الذين تقدموا, هذا الاختلاف في الفهم هو المسؤول عن هذه الهوة التي بيننا وبين ركب الحضارة, أسلافنا استخدموا عقولهم واجتهدوا في فهمهم, و واكبوا شؤون عصورهم, ولكننا حينما جمدنا عقولنا, و وقفنا عند اجتهادات أسلافنا, لم نطوّر, ولم نُبدع, هنا حصلت المفارقة, عصور التخلف التي عشناها أوجدت ركاماً من الفهم الخطأ للدين ".
بعد ذلك يتطرق الكاتب إلى أبرز أهداف برنامج الابتعاث والطموحات المتعلقة عليه:
أولاً: بناء الكفاءات وكسب الخبرات.. من خلال كسب الشهادات الأكاديمية من جامعات عريقة على مستوى العالم؛ للمساعدة على النهوض والتقدم في الوطن وأن نكون مجتمعات منتجة للعلم في المستقبل.
ثانياً: الاستفادة من تجارب الشعوب.. وهنا يُركز الكاتب على مسألة التبادل الثقافي والاطلاع على تجارب الشعوب الأخرى ونقل الأمور الايجابية منها إلى مجتمعات المبتعثين. حيث أننا نفخر كمسلمين بثروتنا الأخلاقية القيمية, ولكن بنفس الوقت هي مجتمعات راقية بقيم كثيرة كالصدق والأمانة والثقة والتسامح.
ثالثاً: مد الجسور مع المجتمعات الأخرى.. من خلال عكس صورة طيبة ومشرفة للمبتعثين أنفسهم في مجتمعات الدول المُبتعث إليها, خصوصاً بعد الأحداث المتطرفة والإرهابية التي حصلت في السنوات الأخيرة.
في الختام.. يوجه الكاتب رسالتين الأولى إلى المبتعثين والمبتعثات, يُذكرهم فيها بأن لهم اباء وأهل وعوائل يتألمون لفراقهم وبأن هُناك وطن يصرف المليارات على مثل هذا المشروع؛ ليستفيدوا منها في كسب العلم والمعرفة لا الراحة والاستجمام, وفي الاطلاع على قيم الحياة الإيجابية التقدمية في تلك المجتمعات, وأن يعكسوا الصورة المشرقة لدينهم و لوطنهم ومجتمعهم حيثما حلّوا.
أما الرسالة الثانية موجهة إلى المُجتمع.. بأنه ينبغي على الجميع العمل في إنجاح هذا البرنامج, من خلال الاستثمار في العلم, والتواصل مع أبنائه المبتعثين. فيختم الكاتب حديثه بـ:
" إن وجود برنامج لإرسال بعض العلماء والموجهين والناشطين الاجتماعيين بين فترة وأخرى, لكي يتفقدوا أوضاع الطلاب المبتعثين, أمر مفيد جداً, في مجتمعنا الكثير من البرامج الدينية, ونصرف عليها أموالاً طائلة, لو اقتطعنا جزءاً مما نصرف على البرامج الدينية في مجتمعاتنا, وخصصناها للصرف على مثل هذه البرامج, بأن نبعث علماء, و موجهين يتجولون في المناطق والدول التي فيها مبتعثون ومبتعثات, فإن ذلك سيكون مفيداً ومساعداً, يرفع معنويات أبنائنا وبناتنا, ويشجعهم على ترسم الطريق الأمثل ".