للتاريخ حرمته ( 2 )
في مقال سابق بعنوان "للتاريخ حرمته" تحدثت حول التاريخ وأنه سجل حافل بالأحداث الجميلة والحزينة وله حرمته من المنظور الأخلاقي والمهني بإعتبار أنه يشكل هوية كل بلدة ومدينة ودولة وحضارة وأن الحفاظ عليه هو حق للجميع وليس لأي كان الحق في تغييره أو شطبه. وذكرت في المقال ما تميزت به محافظة القطيف من تراث عريق في فن العمارة ، وعن وجود تساهل كبير في بلادنا العزيزة بشكل عام إذ يجري تغيير المعالم التاريخية لكل شيء تقريبا من مباني ومجسمات إلى مواقع ومسميات تاريخية بجرة قلم بحيث إن كثير من الآثار التأريخية أصبحت أثرا بعد عين.
لقد صدمت كما صدم المواطنين الشرفاء بالأخبار التي تتوالى هذه الأيام ، الواحد بعد الآخر ، حول إزالة أثر هنا وآخر هناك. وأسلط الضوء هنا على آخر معلمين تمت إزالتهما في بلدة الجش بمحافظة القطيف "بشكل كامل" و "بجرافات مجهولة" و "في ظروف غامضة" وهما:
عين الشنية: هذه العين التاريخية ، بنيت قبل أكثر من 3 آلاف سنة ، تمت إزالتها في أواخر عام 1432 هـ ، وتعتبر واحدة من المعالم الأثرية والحضارية والتاريخية والسياحية المهمة جدا في المنطقة ، كما وصفها عضو الجمعية التاريخية السعودية المؤرخ علي الدرورة في حديثه لجريدة “الشرق”. وقد سميت بذلك نسبة لقرية “الشنية” المندثرة التي ينسب إليها الشاعر الإسلامي المعروف التابعي بشر بن منقذ والمشهور بالأعور الشني المتوفي سنة 50 هـ 670 م. كما تعتبر آخر دليل مادي لفرع شن ابن أقصى ، من قبيلة عبد قيس التي استوطنت الشطر الشرقي من الجزيرة العربية قبل الإسلام وبعده.
عين الكعيبة: هذه العين التاريخية ، تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد ، تمت إزالتها قبل أيام ، أي بعد حوالي شهرين من إزالة عين الشنية. وقد ذكر المؤرخ حسين السلهام عند معاينته للموقع بأن هذا الإرث التاريخي يعد أشهر معلم تاريخي في القطيف ، وقد بناها العمالقة الكنعانيون. وقد اشتهرت هذه العين في العام 317 هـ عندما نقل اليها القرامطة الحجر الأسود ، ومن هنا جائت تسميتها بعين الكعيبة. وقد حدثت أشهر المعارك الحربية «معركة آفان» بين القرامطة والعباسيين بالقرب من هذه العين.
الغريب في الموضوع أن تصريحات الجهات المسئولة المعنية تطابقت في كلتا الحالتين ، فمكتب الآثار في الشرقية يأسف للإزالة وينفي علمه بذلك ، وهيئة الري والصرف في وزارة الزراعة تنفي أنها أمرت بالإزالة وتؤكد عدم علمها بالمتسبب ، وبلدية القطيف تنفي مسئوليتها عن هذه العيون بإعتبارها تقع تحت إشراف وزارة الزراعة وتؤكد عدم مسئوليتها عن الإزالة. بإعتقادي أن هذه التبريرات ليست منطقية تماما ، وأنه ينبغي إجراء التحقيقات اللازمة وتحديد المتسبب ومعاقبته.
غير أنه هذه المواقف المبدئية للجهات المسئولة تطورت بصورة إيجابية حيث وجه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار بإتخاذ إجراءات حازمة ضد المتسببين ، وإلزامهم بحفر العين وإعادة بنائها على ما كانت عليه من قبل ، وكذلك إحالة القضية إلى لجنة النظر في قضايا الآثار لاتخاذ العقوبات المقررة نظاماً في مثل هذه الحالات. كما صرح نائب الرئيس للآثار والمتاحف الدكتور علي الغبان أن الاعتداء على الموقع الأثري المعروف بعين “الكعيبة” مخالفة صريحة لنظام الآثار الصادر بالأمر الملكي رقم م/26 والصادرة 1392هـ.
كما اتهم مدير متحف الدمام الإقليمي عبدالحميد الحشاش ، أحد المقاولين بالضلوع في هدم العين ، مؤكدا ان ما يتم البحث عنه حاليا هو الجهة التي أوعزت له بذلك ، وهو ما ستكشفه تحقيقات القضية التي رفعت حيثياتها للجهات المعنية عبر إمارة المنطقة الشرقية. وذكر ان المتسبب لو "تحجج" بأن ذلك يعود الى كون الموقع أملاك خاصة فانه لا يعطيه الحق بالتعدي على الموقع الأثري التي تعود ملكيته للدولة. وكان يفترض التواصل مع الجهات المعنية قبل الإقدام على أي عمل لان النظام يعوض أصحاب المواقع التي تحوى أثارا.
كما وعد مدير عام الشؤون الفنية ببلدية محافظة القطيف المهندس شفيق آل سيف أثناء زيارته للموقع بفتح تحقيق في الحادث ، ومحاسبة المسؤول ، فيما طلب من مندوب مكتب الآثار تزويد البلدية بإحداثيات المعلم ، وذلك للعمل على حمايته بشكل مؤقت لحين اتضاح الأمور. وقد أكد عضو الجمعية التاريخية السعودية المؤرخ علي الدرورة أن نظام الآثار الصادر بموجب المرسوم الملكي في عام 1392هـ ينص على عدم جواز أن تمنح البلدية رخص بناء وترميم في الأماكن القريبة من المواقع الأثرية والأبنية التاريخية إلا بموافقة من إدارة الآثار.
لقد إتخذ المجلس البلدي بالقطيف موقفا واضحا وحاسما ضد أي مساس بالمواقع الآثرية بالمحافظة من خلال وقوفه ، ممثلا برئيس المجلس المهندس عباس الشماسي وعضو المجلس المهندس نجيب السيهاتي ، وبمعية المؤرخ حسين السلهام على موقع عين الكعيبة. وقد وعد رئيس المجلس بالعمل على تسوير الموقع وحمايته من العابثين في القريب العاجل ، وذلك بالتنسيق مع الجهات المسؤولة.
مواقف المسئولين هذه تعد مؤشر لتغير إيجابي لطريقة التعامل مع الآثار التأريخية في بلادنا العزيزة. آمل أن تترجم هذه المواقف على أرض الواقع ليتم الحفاظ على ما تبقى من هذه الآثار كمعالم بارزة لتأريخنا وتراثنا وأن يتم النظر في إعادة بناء بعض المعالم الأثرية الهامة التي أزيلت في فترات سابقة لتحكي قصة الآباء والأجداد وتكون رافد سياحي وأقتصادي هام.