الانتعاش الديني في زمن الكورونا
انتشار فيروس كورونا وتأثيره عل السلوكيات ”الدينية“ في المجتمعات ”العلمانية“ و”الدينية“ على حد سواء، يُذكرنا بافتراضات فرويد في تحليله للقبائل البدائية ودراسته لأنماط الفكر السحري، وشكوكه حول عقلانية الدوافع أو تأثير العوامل العقلانية في الفرد أو الجماعة قياساً بالعوامل العاطفية أو الغرائزية خاصة في زمن الكوارث والأوبئة. ينبغي الاعتراف بلا تحفظ، أن أزمات من هذا النوع تكشف لنا أن هناك بقايا لايزال لها تأثير كبير للفكر السحري في الأديان كما أنه هناك بقايا للفكر الديني أو الروح الدينية في الأيديولوجيات أو المجتمعات ”العلمانية“.
حتى فرويد نفسه الذي يقدم على أنه ”عدو للدين“ صرح بتواضع بأنه بقي متردداً أمام ”الإحساس الديني“ واعترف بأنه لم يجد أثراً لهذا الإحساس في داخله عندما أخضع نفسه لعملية التحليل النفسي، ولكن ذلك بالنسبة له لا يعني مطلقاً إنكار وجود هذا الإحساس عند غيره. ويعني فرويد بالإحساس الديني: الشعور بالأبدية والحنين إلى المطلق الذي نجده مع اختلاف درجاته وتنوع تمظهراته عند معظم المتدينين والمتدينات من مختلف الأديان. ولقلق الإنسان وخوفه أمام قوى الطبيعة القاهرة دور لا يستهان به في تعميق إحساس من هذا النوع. فالمؤمن يخفف من وطأة القلق الذي يكتنف وجوده من خلال علاقته بالمقدس، في عالم قُذف فيه وأسلِم للموت، بحسب تعبير هايدغر. ومن فظاعة وعدمية الموت ورعبه تولد الحاجة إلى الطقوس الدينية التي تعيد إلى الإنسان شيئاً من توازنه السيكولوجي وتضخ حياته بمعنى ما. وفي زمن الأوبئة والكوارث تنتعش الأديان - كما تنتعش الشعوذة والحاجة للتأمل واليوغا والأعشاب والعقاقير المنومة والمهدئات، فالكائن البشري لا يقوى على تحمل الكثير من الواقع كما يقول إليوت.
وإذا كان رجل الدين أو بعض المؤمنين لا يرون في الكوارث والبؤس إلا انعكاساً للغضب الإلهي، فإن فرويد يرى أن الدور الأساسي للدين، أي دين، يمكن في تقديم إشباع لجميع المؤمنين، وهو إشباع يعوض قليلاً عن ثقل العبودية التي تأتي بها الحضارة، وبهذا يمكن اعتبار التقدم الحضاري إنعاشاً للنزوع الديني وإن اتخذ أو تقنع بأسماء غير دينية. فحينما تعجز ”الحضارة“ عن حماية الإنسان عندئذ يتقدم الديني لحماية المؤمنين والمؤمنات، على المستوى النفسي، من أخطار الطبيعة. وكما يقول فرويد: ”تحتفظ الآلهة بمهمتها الثلاثية: إبعاد قوى الطبيعة، التوفيق بين البشر وبين وحشية القدر كما تتجلى في الموت بشكل خاص، وتعويضنا عن الآلام والحرمان التي تفرضها على الإنسان حياة المتحضرين المشتركة...“ سأذكر الآن بعض الأمثلة على مظاهر الانتعاش الديني وأشكاله الغرائبية بعد انتشار فيروس كورونا.
من أهم نتائج استطلاع ”بيو“ الذي أجري مؤخراً ل11537 بالغاً أمريكياً لوحظ أن الفيروس أثّر تأثيراً بالغاً على الممارسات الدينية للأمريكيين. فأكثر من نصف البالغين في الولايات المتحدة صلّوا من أجل وضع حدّ لانتشار الفيروس التاجي. بينما «15%» من الذين لا يصلون عادةً صلّوا مؤخراً، و«24%» من الأشخاص الذين يقولون أنهم لا ينتمون إلى أي دين قاموا بالصلاة أيضاً. واعتبر البعض أن انتشار الفيروس ساهم في ”نهضة دينية“. ولكن سادت بين أوساط اليمين المسيحي في أمريكا حالة إنكار لخطر كوفيد 19.
في مدينة تامبا مثلاً، ولاية فلوريدا، حذّر القس اليميني هوارد بروان في حشد من أنصاره من الانخداع بمزاعم الحكومة حول الفيروس، الذي ليس إلا ”طاعون وهمي“ وإذا كان له وجود، فإن هزيمته لن تكون إلا بوسائل إلهية خارقة. ولقد رفض هاورد هذا القس المعتوه الالتزام بإلغاء خدمات الكنيسة لصالح التباعد الاجتماعي، بل أنه تباهى بالمصافحة العلنية مع مريديه ومن سار على نهجه. في حين أن قاضي المحكمة العليا السابق في ألاباما روي مور المقرب من ترمب، الذي اتُهم بالتحرش الجنسي ضد قاصرات، كتب رسالة إلى قساوسة ألاباما يدعوهم فيها إلى مواصلة اجتماعات الكنيسة لأن ”إيماننا يتطلب ذلك ولا يمكن لأي قانون أو حكومة حظره“.
أما كينيث كوبلاند، الكاتب التلفزيوني والمبشر ب ”إنجيل الرخاء“ في تكساس، والذي يملك ثلاث طائرات خاصة، لأنه يرفض ارتياد الطائرات العامة مع ”حفنة من الشياطين“، اعتبر الفيروس التاجي سلالة ”ضعيفة“ من الانفلونزا، وأن الخوف من الوباء ”خطيئة“. فأنت حينما تخاف ”تعطي الشيطان طريقاً لجسدك“ على حد قوله. وزعم كاهن آخر، وهو إرميا جونسون، أن الله تحدث إليه في حلمه وأخبره ”كان العدو ينوي ضرب دونالد ترمب، ولكن المساعدة السماوية في الطريق“. حتى الذين يعتقدون بخطورة الفيروس من المسيحيين التقليديين، يعدّونه مجرّد ”حرب روحيّة“ لا تستدعي القلق لأن يسوع أعطى كل مسيحي مُخلص سلطاناً على كل شيطان ومرض. وإذا مات المسيحي فمصيره مع الرب فلا شيء يستدعي الهلع. والطريف في الأمر رغم اختلاف زعماء الكنائس حول كيفية التعامل مع الفيروس إلا أنهم اتفقوا في نهاية المطاف على أمر واحد: أهمية جمع الأموال.
في الوطن العربي، أفتى المجلس الأعلى للإفتاء في إقليم كوردستان بأنه: ”من مات بفيروس كورونا فهو شهيد“ وفي السياق ذاته قال الشيخ العراقي قاسم الطائي: ”إن الفيروس لا يصيب المسلمين الملتزمين بأحكام الشريعة، وأنه عقاب للبشر على ما كسبت أيديهم.“ أما مقتدى الصدر المعروف بجهله وتنطعه فهو يعتقد أن سبب انتشار هذا الوباء هو ”تقنين زواج المثليين“ وقد دعا أنصاره إلى زيارة ضريح الإمام الكاظم، ولكن مع الالتزام ب ”النظام والقواعد الطبية“، مما دفعهم إلى التوجه نحو مدينة الكاظمية بالآلاف رغم سريان حظر التجوال. وانتشرت فيديوهات على مواقع التواصل لمجموعة من الزوار يلعقون الأضرحة في مدينة النجف كتحدٍ للمنع، ومجموعة أخرى يرددون في هستيريا جماعية: ”يم حيدر قاضي الحاجات، عيب نلبس كمامات، من كورونا متخوفين، عندكم تخلف في فهم الدين، حيدر يشفي المتمرضين..“
وفي إحدى الكنائس اللبنانية، أصرّ كاهن على عدم أداء طقس مناولة القربان في الفم، تنفيذاً لقرار السلطة الكنسيّة العليا، ضمن إجراءات الوقاية من فيروس كورونا، ممّا أثار موجة احتجاج ضده من قِبل المصلين، وفشلت كلّ محاولاته في إقناع الجموع الهائجة. وفي لبنان أيضا، بعد الإعلان عن انتشار الكورونا في لبنان، وتداول خبر ظهور القديس شربل إلى إحدى اللبنانيات وطلب منها تقديم الماء وترابه لمرضى الكورونا، تهافت المؤمنون والمؤمنات إلى دير مار مارون لأخذ حفنة من تراب قبر مار شربل.
وفي الكيان الغاصب تخوض سلطات الاحتلال معركة شرسة لمنع تفشي وباء كورونا في أحياء يهود الحريديم بعد ارتفاع أعداد المصابين في أوساطهم لتصل إلى 50% من نسبة المصابين في الأراضي المحتلة.
يلتزم عادة المؤمنون والمؤمنات بتعاليم وفتاوى المرجعيات الدينية، لكن في الأزمات تصبح الغلبة للتدين الشعبي والتقليدي الذي من أهم سماته المبالغة والمباهاة في ممارسة الشعائر الدينية.
لا شك أن للدين، أي دين، منافع كثيرة في حياة المؤمنين والمؤمنات، ولكن المياه المقدسة ليست مطهراً لليدين والصلاة ليست لقاحاً ضد الفيروس الفتاك. ولا أظن أن أحداً يتحلى بشيءٍ من الحس السليم بالمسؤولية أن يجادل في أهمية حظر جميع التجمعات الدينية وغير الدينية من أجل السلامة العامة.
هناك قصة طريفة حدثت في سنغافورة عام 1967، حينما انتشرت حمى الخنازير، قامت الحكومة بحملة إعلامية ضخمة للحث على تطعيم الخنازير من أجل السيطرة على المرض. وراجت حينئذ شائعات بأن أعضاء الرجال التناسلية قد تنكمش أو تضمر بسبب أكل خنازير مصابة بالحمى، وكان كثير من الرجال يضعون ملاقط خشبية على أعضائهم الذكرية لمنع حدوث هذا الأمر المروع. وفي اليوم السابع عندما كان الوباء في ذروته، استُضيف مجموعة من الخبراء في التلفزيون والإذاعة شرحوا للناس أنه من المستحيل أن ينسحب العضو الذكري إلى داخل البطن. ورغم ذلك ظلّت تجارة الملاقط الخشبية رائجة حتى انتهى الوباء.
نضال البيابي