أترك أثرا ً قبل الغياب والرحيل «1»
يسعى أغلب الساعون في قوت يومهم والكادحون على عيالهم من عرق جبينهم في وقتنا الحالي الى تطوير ذواتهم لإكتساب مهارات تمكنهم من الإستمرار في أعمالهم إحترازاً من عدم قطع أرزاقهم من قبل رب العمل، والتي هي عبارة عن المهارات والمواهب الفردية الفنية والغير فنية والمهارات العقلية على مستوى التحصيل العلمي، والتي من خلالها تسهل عليهم الحصول على فرص عمل أكثر ودخل أفضل وتحسين مستوى معيشة الحياة مما يساهم في تحقيق أحلامهم وطموحهم وأهدافهم الشخصية، وهو أمر حسن، فالمميزات التي يتمتع بها كل مجاهد في عمله تجعل له قيمة لدى أرباب العمل، ألم يقل وصيُّ خير البشر علي قيمة المرء ما كان قد يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء، أولم يقل في موضع آخر «أقل الناس قيمة أقلهم علما ً».
تطوير المزايا والصفات الخُلقية المعنوية للمرء كثيرا ً ما يتغافل عنها البعض، فقد تجد إمرء ٍ ما لديه أرقى الدورات التدريبية والشهادات العلميه التخصصية ومن أرقى الصروح العلميه العالمية، ولكن مستوى خُلقه فظا ً غليظا وفي الدرك الأسفل.
فحُسن الخُلق يجعل أيضا للإنسان له قيمة ومنزلة عند الآخرين في المجتمع، فكلما تدرج خُلق الفرد إلى أعلى درجة وكان «خُلقه عظيماً» كلما أرتفعت منزلة المرء عند الناس وعند رب الناس، فالبعض يترك أثرا ً طيباً لحُسن خلقه قبل غيابه والبعض الآخر يترك أثرا ً سيئا ً بعد رحيله لا يمحى من الذاكرة لسوء خِلقه.
وفي هذه السلسلة «أترك أثرا ً قبل الغياب والرحيل» سنتطرق لاحقا ً عن السجايا المعنوية التي ما إن إتصف بها المرء كان محبوبا ً بين الناس ونال أعلى الدرجات في الآخرة والصحيح أيضا ً خلاف ذلك:
المحور الأول: أكمل المؤمنين أحسنهم «خُلقاً»:
الحُسن في اللغة: الجمال وكل مبهج مرغوب فيه
الخُلق لغة ً: صفات للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر أو روية، ومجموعها أخلاق» «1».
وحُسن الخُلق في الاصطلاح: «سلوك يسلكه الإنسان في ميدان الفضائل أو الرذائل ويصبغ صاحبه بالحسن أو القبح».
وحسن الخُلق هو: حالة نفسية تبعث على حسن معاشرة الناس، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة، كما عرفه الامام الصادق حينما سئل عن حده فقال: «تلين جناحك، وتطيب كلامك، وتلقى اخاك ببشر حسن» «2».
من الأماني والآمال التي يطمح إليها كل عاقل حصيف، ويسعى جاهداً في كسبها وتحقيقها، أن يكون ذا شخصية جذابة، ومكانة مرموقة، محبباً لدى الناس، عزيزاً عليهم، بيد أن جميع تلك القيم والفضائل، لا تكون مدعاة للإعجاب والإكبار، وسمو المنزلة، ورفعة الشأن، إلا إذا أقترنت بحسن الخلق، وأزدانت بجماله الزاهر، ونوره الوضاء، فإذا ما تجردت منه فقدت قيمها الاصيلة، وغدت صوراً شوهاء تثير السأم والتذمر، لذلك كان حسن الخلق ملاك الفضائل ونظام عقدها، ومحور فلكها، وأكثرها أعداداً وتأهيلا لكسب المحامد والأمجاد، ونيل المحبة والاعزاز.
قال النبي : «أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم» «3»، وقال الباقر : «إن اكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً» «4»، وقال الصادق : «ما يقدم المؤمن على الله تعالى بعمل بعد الفرائض، أحب إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه» «5»، وقال : «أن الله تعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق، كما يعطي المجاهد في سبيل الله، يغدو عليه ويروح» «6»، قال النبي : «أن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم «7»، وقال الصادق : «أن الخلق الحسن يميث الخطيئة، كما تميث الشمس الجليد» «8»، وقال : «البر وحسن الخلق يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار» «9»، وقال : «أن شئت أن تكرم فلن، وان شئت ان تهان فاخشن» «10»، وقال النبي : «أنكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم» «11».
وكفى بحسن الخلق شرفاً وفضلا، أن الله عز وجل لم يبعث رسله وأنبيائه إلى الناس إلا بعد أن حلاهم بهذه السجية الكريمة، وزانهم بها، فهي رمز فضائلهم، وعنوان شخصياتهم، ولقد كان سيد المرسلين المثل الأعلى في حسن الخلق، وغيره من كرائم الفضائل والخلال. واستطاع بأخلاقه المثالية ان يملك القلوب والعقول، واستحق بذلك ثناء الله تعالى عليه بقوله عز وجل من قائل: «وإنك لعلى خلق عظيم» وهذا ما خلده التاريخ.
فعن أمير المؤمنين قال: أن يهوديا كان له على رسول الله دنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهودي ما عندك ما أعطيك فقال: فاني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني فقال: إذن اجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله يتهددونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله إليهم وقال: ما الذي تصنعون به؟! فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك! فقال: لم يبعثني ربي عز وجل بأن أظلم معاهدا ًولا غيره. فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت، إلا لأنظر الى نعتك في التوراة، فإني قرأت نعتك في التوراة: محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب، ولا متزين بالفحش، ولا قول الخنا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله، وكان اليهودي كثير المال «12».