الوصول إلى الحسين (ع)
نسمع كثيراً على لساننا الشيعي، الذي تربى ويتربى منذ الرضاع، بل قبله مع نبضات الأم في أولى لحظات الحياة، على حب وعشق أهل البيت ، عبارات يلهج بها الفرد الشيعي باستمرار، منها عبارة نكررها كثيراً، لكن ربما لا يدرك الكثيرون منا خطرها وعمقها وأبعادها الحقيقية كما ينبغي، أو لا يصل الكثيرون لتحقيقها واقعاً. فعظمة الحسين ، في حقيقتها الجوهرية لسموها، أعمق من أن يصل إليها أو أن يقترب من الوصول لها معظمنا، فالوصول هنا معناه الترقي في طريق ذات الشوكة وجهاد النفس من أجل المعرفة والإستقامة على الحقيقة المنجية، لذا يجب التنبيه والتذكير دوماً بالبعد الحقيقي لتلك العبارة ومثيلاتها، وتلك العبارة المشار إليها هي: ”رزقنا الله وإياكم الوصول“،
من طبيعة البسطاء أن يبحثوا عن الله سبحانه في أحجار الكعبة المشرفة، وعن الحسين في ضريحه وتربته التي ضرجت بالدماء في كربلاء، نبحث عن الحسين في اللطم وفي البكاء وفي المواساة لأهل البيت وفي لبس السواد وتعليق الرايات وإقامة المآتم... لكن ماذا بعد؟.
فكل تلك شواهد حقيقية للوصول إلى الحسين ، ومنارات ومآذن لتقام الصلاة الحسينية «صلاة الإصلاح». لكن هل يصح أو يكفي أن نؤذن ثم لا نصلي؟ هل يصح أن نلطم ثم نغتاب؟ وهل يصح أن نرفع الرايات الحسينية والولائية ثم نهمز ونلمز الآخرين أو نتنمر عليهم؟ وهل يصح أن نضع مضيفاً باسم الحسين ، أو أن نزور ضريحه الشريف، ثم نهجر الإخلاص في العمل والواجبات الوظيفية أو الأسرية؟... الخ.
كل تلك الدلائل الطقوسية ضرورية ومهمة جداً في الدلالة على سبيل الحسين ، لكن التمسك بها دون فهم أبعادها والتعمق وصولاً إلى جوهرها والتوقف عندها عاجزين دون قدرة على تجاوزها، هل يعني أننا حسينيون فعلاً، قد وصلنا إلى الحسين ، أو اقتربنا منه ومن ساحته كما ينبغي؟.
إن الزهد في الحسين ، هو أن تمارس ذلك النوع من التشيع الذي يلامس الشعار، لكنه يفشل في الوصول إلى الأعماق، فالحسين بكل عظمته هو روح وثابة إلى الإصلاح في الأمة وفي كل العالم، في كل زمان وفي كل مكان، فكل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء، حتى في علاقاتك في العمل وداخل الأسرة، ومن أكبر الخطأ والخلل أن نقصر الحسين على إقامة الشعارات والشعائر والمنارات الظاهرية، وإن كان ذلك واجباً شرعياً كواجب الحفاظ على حجارة الكعبة المشرفة قائمة، لكن الغايات أبعد وأسمى وأصعب وأنبل، والوصول إليها ليس بذات سهولة إقامة الشعار. كما هو أيضاً من الخطأ أن يحصر إصلاح الحسين ، بثورة تراق فيها الدماء، يجب أن تستحضر في كل جيل وكل مكان، فالدماء واجبة الحفظ، والحسين لم يخرج لإراقة الدماء، إنما خرج للإصلاح، وهكذا ومن خلال هذه المفردة الواضحة والعميقة والموجزة، يجب أن نعي ونعرف الإمام الحسين ، لنعرف كيف تتحقق أهدافه وغاياته، بعد التعمق في ما تفرزها جدليات تلك المفردة وتطبيقاتها.
إن من أعجز العجز، في ظل هذا الوعي والفهم للإمام الحسين ، أن نبحث عن الحسين ، عند ضريحه وتحت قبته وتحت منبره، ثم نكون عاجزين بعدها عن تجاوز ذلك، بل والأسوء من ذلك، بعد كل الطقوس والشعائر، أن نعجز عن إصلاح ذواتنا، أنفسنا وأهلينا وواقعنا، وأن نسقط معرفياً وأخلاقياً وحضارياً.
إن الحسين هو القمة الشامخة في العلم والوعي والفهم والقيم الأخلاقية والإنسانية، وعلى كل من يطلب الوصول إلى الإمام الحسين ، أن يجاهد للصعود لهذه القمة العالية.
إن حضورك للمآتم ولطمك الصدر ولبسك السواد وزيارتك للضريح، لا تعنينا في شيء، ولا تعني للحسين شيء، كما يعني وصولك الأخلاقي والمعرفي.
أصلح أخلاقك تصل للحسين ، أخلص في وظيفتك تصل للحسين ، تفقد الفقراء تصل للحسين ، تبحر في العلوم والمعارف المعاصرة لتساهم في عمارة الأرض وبناء الحضارات الإنسانية والأخلاقية تصل للحسين ، شارك في إنجاز البحوث والحركة الثقافية والعلمية التي تصنع وعي الأمة تصل للحسين ... وهكذا.
هكذا نصل لروح وحقيقة وجوهر ”إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي“. والواجب أن لا نجعل الإصلاح قريناً فقط لحمل السيف وإراقة الدماء في معركة حصلت في ظروف خاصة، وتطلبها موقف خاص، جر إليه الإمام الحسين جراً، في مواجهة عنيفة دموية حرص الحسين كل الحرص على أن لا يقع مثلها في تاريخ الأمة، من أول خروجه كي لا يذبح متعلقاً بأستار الكعبة، وحتى آخر لحظات طلبه العودة أو التوجه إلى طريق غير طريق الكوفة.
الحسين كله اصلاح، ومن مظاهر صلاحه واصلاحه في الأمة وهو المتأسي بأخيه وجده وأبيه، في جنوحهم للسلم وطلبهم لعزة الأمة وحفظ كيانها، ورفضهم لكل أشكال تمزيق وتمزق الأمة، أنه كان رافضاً فعلاً بكل أشكال الرفض اراقة الدماء، ووقوع المواجهة المسلحة، إلى أن أصبح الأمر فرضاً وامراً واقعاً، فرض عليه وعلى الأمة، وتطلبه الموقف الاستثنائي، والحسين داعية الاصلاح والسلام، لا يجبن في المعركة حين تكون هي القدر المقدور، ويكون النزال والصراع، هو الواجب بلا مفر، وحين يكون الخيار الآخر، هو النزول إلى ساحة الذل والصغار، وتضييع كل القيم، وهو ما رفضه الحسين بكل وضوح بلا شك، فكان القدر والقضاء والموعد المحتوم مع التضحية صوناً لقيم السماء، التي تطلبها الموقف.
إن واجبنا اليوم، بعد أن نعي أن الهدف الحقيقي للحسين إنما هو الإصلاح، وليس المواجهات الدامية بعينها في واقع الأمة، التي اصطبغ بلونها مشهد واقعة كربلاء، وبعد أن نعي أن الشعارات والشعائر والأضرحة والوصول لها وتفعيل حضورها في الأمة ليس هو التفعيل الحقيقي والحضور الحقيقي الأكمل لقيم الحسين ، هو أن نصبح حقيقة وجوهراً إلى الحسين وجوهره العميق أقرب، بأن لا نحوله إلى مجرد شعارات وطقوس جوفاء، فتلك الشعارات والطقوس لها عظمتها وعمقها وروحها وحرمتها عندما تؤدي وظيفتها كبوابات إلى طريق السمو والسماء، لكنها توجب علينا واقعاً، أن ننطلق منها للوصول الحقيقي للحسين ، وصولاً حضارياً قيمياً وأخلاقياً ومعرفياً وفكرياً وروحياً، يحضر في الأسرة وتجمعات الأصدقاء وفي مقار العمل وميادين العلم وعند بطون المحتاجين والفقراء وفي ميادين العمل الاجتماعي والانساني ومواقع القيادة والارشاد، حضوراً يجعل أمم الأرض كلها تنظر لنا نظرة إكبار وإجلال واحترام، وتشهد بأننا نحقق قيمة حضارية عظمى في العالم، فيدرك العالم أجمع من واقع المشاهدة والمعايشة الفعلية ما للحسين من معناً وما هو جوهر اتباع الإمام الحسين وجوهر وولاء أهل بيت العصمة صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، فنكون نحن ممن وعى وعاش حقيقة المقولة ”اللهم ارزقنا الوصول“ وحققها في واقعه، حيث الحسين هو قمة عظمة المباديء الأخلاقية والإنسانية، وجوهر الحسين هو عمق وعظمة المعرفة والعلم والوعي الحضاري، الذي به تتضح وتضاء سبل الحياة ونستنير به سبل الحياة والآخرة معاً.