اعتداءات الكلاب المشردة، تدق ناقوس الخطر
لا شك أن الكلاب حيوانات لطيفة، كغيرها من الحيوانات الصديقة للإنسان، كالقطط والسناجب والأرانب والبط والدجاج والحمام وطيور الكناري والخيول... الخ. فهي وفية وودودة ومرحة، تحب اللعب والمرح والتسلية، وفوق ذلك فهي مخلصة في الدفاع عن صاحبها، كما أن للكثير منها أشكالاً جميلةً محببة للصغار والكبار. لكن تلك الكلاب الودودة المحبوبة، تنقلب فجأة من صديقة للبشر، إلى وحوش شرسة مرعبة، تهاجم وتقتل وتفترس.
وهنا سنقع في حيرة، عند محاولة تصنيفنا لهذه الكائنات. فهل هي صديقة لنا كالقطط؟ أم عدوة لنا كالثعابين والضباع؟!.
وعندها سيفتح لنا هنا باب التساؤلات والجدل من منطلق أن الإنسان أولاً، وضمن الكثير من تساؤلاتنا، سيبقى السؤال الأهم، هو: لماذا تهاجم تلك الكلاب البشر، فجأة؟ وما سر تحولها من كائنات لطيفة كالقطط، لكائنات عدوانية كالسباع؟ وما هي الحلول المتاحة لنا للتعامل مع هذه الظاهرة المرعبة والمقلقة؟ فهل الحل هو قتل جميع الكلاب في الطرقات والصحاري والبراري؟ أم أن هناك حلولاً أخرى رحيمة يمكن لنا تطبيقها؟.
إن المطالعة والقراءة والتتبع، يمكن أن توصلنا لقناعة بأن أغلب الهجمات التي يتعرض لها البشر من قبل الكلاب، مصدرها كلاب الشوارع ”street dogs“ أو الكلاب المشردة أو باصطلاح آخر «الكلاب الضالة» ”stray dogs“ - إن صح التعبير -، بينما تعتبر كلاب المنازل غالباً ودودة ولطيفة ولا تشكل عادة أي خطر ضمن حدود الوضع الطبيعي.
أضف إلى ذلك أن كلاب الشوارع أو الكلاب المشردة، ليست دائماً حيوانات عدوانية، فهي تميل لكونها أيضاً ودودة ولطيفة وآمنة نسبياً كالكلاب المنزلية. لكن شواهداً وحوادثاً متنوعة عابرة لحدود هذا العالم، تجعلها مصدر توجس وخطر وحذر. وهذا يدفعنا أكثر نحو السعي لفهم تلك النزعة العدوانية لدى بعض تلك الكلاب المشردة.
يرى البعض، أن عدوانية تلك الكلاب، ناتجة من عدوان البشر، وأيضاً من عدم فهم البشر لسلوك الكلاب، ولكيفية التعامل معها. ويرى هذا البعض أن الكلاب ترد الهجوم بالهجوم، كما أن لها مناطق تسكنها وتقطن فيها ترفض اختراقها وتدافع عنها وترفض تدنيسها. فهل حقاً هذا كل ما في الأمر، أم أن هناك عوامل أخرى لكون بعض الكلاب عدوانية؟!.
في هذا السياق، نشرت صحيفة الواشنطن بوست على موقعها الإلكتروني خبراً تناول تحريات قام بها مجموعة من العلماء في الهند، لمعرفة سبب تحول مجموعات من الكلاب الضالة لمهاجمة وقتل الأطفال بشكل غريب وغير مألوف، في قرى قرب مدينة سيتابور الواقعة شمال الهند.
فخلال أسبوع واحد، قتل ستة أطفال بين الخامسة والثانية عشرة من العمر، بينما تعرض عشرات الأطفال لجروح بسبب الكلاب المشردة، هذه الأحداث ومثيلاتها، أدت بحسب بعض التقارير لانخفاض في أعداد الأطفال الذين يذهبون للدراسة في المدارس، كما انتشرت بسببها أيضاً عدة شائعات.
تقول بعض الشائعات، أن سبب تحول الكلاب المشردة لكلاب شرسة، هو إغلاق مسلخ غير نظامي، حيث نتج عن إغلاق المسلخ تجويع تلك الكلاب وحرمانها من مصدر غذائها، ما دفعها لمهاجمة البشر.
وفي حادثة مؤلمة أخرى، نقلها موقع ”patch. com“، هذه المرة في كارتريت في الولايات المتحدة الأمريكية، تسلل إثنان من كلاب البيتبول - غير المرخصة رسمياً بحسب ما هو مطلوب نظاماً - من أحد المنازل إلى منزل مجاور آخر، عبر الفناء الخلفي، وهاجما طفلاً في الثالثة من عمره وأمه. وقد توفي هذا الطفل لاحقاً، بعد نقله لأحد المستشفيات بطائرة مروحية، فيما خضعت أمه للعلاج في أحد المستشفيات، بعد نقلها بواسطة سيارة إسعاف. وأفادت التقارير أن حالتها الصحية غير معروفة.
موقع ”نيوز ويك“ الإلكتروني من جهته، نقل خبراً أكثر تفصيلاً حول هذه الحادثة، ذكر الخبر أن الكلاب المهاجمة لم تكن معروفة بالعدوانية من قبل، كما أشار الخبر نفسه على ذلك الموقع ضمن تقريره الصحفي نقلاً عن مواقع متخصصة، أن 521 أمريكياً قد قتلوا في هجمات من قبل الكلاب بين العام 2005 والعام 2019 م.
أما موقع ”dogbitesohio. com“، فقد ذكر أن معضلة الكلاب الضالة، من المشاكل التي تعاني منها بشكل رئيسي دول العالم الثالث، ورغم ذلك إلا أن هذه المشكلة تعتبر مشكلة عالمية تشهدها الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً.
وقد نقل هذا الموقع حادثة مقتل إمرأة تبلغ من العمر 52 عاماً، بعد تعرضها لحوالي مائة عضة، جراء هجوم قطيع من الكلاب الضالة عليها في دالاس بالولايات المتحدة الأمريكية.
إذاً، فالكلاب الضالة خصوصاً، ليست آمنة على البشر بشكل كامل، كما يتصور البعض، أو كما يحاول البعض أن يصور لنا. ولو تتبعت قصص هجمات الكلاب على البشر عبر العالم، ستستطيع أن تؤلف موسوعة قصصية ضخمة، تحتوي الكثير من قصص هجوم الكلاب على البشر. لكن، تبقى الكلاب عموماً مخلوقات وفية ولطيفة، وإن اختلفت المواقف منها في عالمنا العربي والإسلامي، ويبقى الأهم هنا مجدداً، هو الإجابة على التساؤل السالف: لماذا تتحول الكلاب اللطيفة، من سلوكها الهاديء، إلى وحوش شرسة مهاجمة للبشر؟.
يقول الدكتور سمير ساهي، الضابط البيطري، العامل في عيادة بيطرية تقع في مدينة رانشي الهندية، في حديث حول الزيادة في هجمات الكلاب على البشر في منطقة رانشي، أدلى به لصحيفة ”THE TIMES OF INDIA“ ونشر على موقع الصحيفة الإلكتروني: ”هناك سببان رئيسان للزيادة في حوادث عضات الكلاب. فدائماً ما تتقاتل الكلاب الضالة فيما بينها على الطعام، لكنها لا تهاجم البشر، إذا كان الطعام متوافراً لها بكميات مناسبة، لكن إذا أصبح الطعام شحيحاً، تصبح الكلاب الضالة متوترة تهجم على البشر. أما السبب الثاني، فقد يكون الارتفاع الحاد في درجات الحرارة، والذي يجعل الكلاب تشعر بالقلق“.
في ظل جائحة كورونا، والإجراءات الإحترازية المتخذة في هذه المدينة في ظروف الجائحة، تسبب إغلاق المطاعم وأكشاك تقديم الوجبات في الطرقات، بحسب بياطرة ومنظمات غير حكومية مهتمة بالحيوانات المشردة، في إقفال أهم مصدر لإطعام هذه الحيوانات المشردة، كما ذكرت هذه الصحيفة على موقعها، وهذا بالتالي، فاقم هجمات الكلاب الضالة على البشر.
وبالنظر لما سبق، واعتبار ما ذكر أسباباً رئيسة لتفاقم الهجمات، فيمكننا القول أن البيئة في المملكة العربية السعودية، تمتلك بطبيعتها مقومات وعوامل يمكن أن تحفز الكلاب المشردة على مهاجمة البشر، أكثر من بيئات أخرى.
فإذا أخذنا بعين الإعتبار ما ذكر حول تأثير درجات الحرارة المرتفعة، فتعتبر درجات الحرارة عالية بشكل عام في المملكة، وهذا مما يمكن أن يسهم في رفع حدة انفعال الكلاب، فتتجه لمهاجمة البشر. كما أن نظام النظافة العام في المملكة، نظام متطور، يعقد أمام الكلاب المشردة مسألة الحصول على طعامها بيسر وسهولة من الطرقات وأماكن إلقاء وتجميع النفايات. أضف إلى ذلك غياب الفرائس الحية، التي يمكن أن تشكل مصدر غذاء كاف لهذه الحيوانات الضالة، يعوض غياب مصادر الطعام الأخرى.
لكن هنا بعيداً عن هذه الأسباب، دعونا نعود لجذور المشكلة، وهي ظهور هذه الحيوانات في الأحياء والمدن فجأة. فهذه الحيوانات المشردة غابت عقوداً من الزمن عن البيئة، خصوصاً المناطق السكنية التي اكتسحت المناطق الزراعية وحلت محلها، وتلك المدن التي أصبحت خرسانات مسلحة وطرقاً مسفلتة متشابكة تغطي مساحات واسعة، ثم عادت بكثافة فجأة، فكيف عادت وتكاثرت وانتشرت بهذه الكثافة في كل أرجاء المملكة؟!.
يبدو أن هذه الحيوانات قد عادت نتيجة انتشار تربية الكلاب في الأوساط الشبابية بشكل واسع، ما أسهم لاحقاً في تكاثرها بشكل مقنن وغير مقنن. ورغم أن تربية الحيوانات ومنها الكلاب، عمل إنساني رقيق، ينسجم مع الرحمة والرقة، التي أودعها الله سبحانه في قلوب أبناء البشر، وقد ورد ذكر الكلب في القرآن الكريم في قصة أصحاب الكهف في سياق لا يزدري الكلاب، بل يضع لها مكانتها كحامية وحارسة للبشر، كما ورد ذكر الكلاب في مرويات دينية أخرى غير النص القرآني، تحث على الرقة والرحمة تجاه مختلف الكائنات الحية.
لكن رغم ما في تربية تلك المخلوقات من نبل ورقة وأهمية، إلا أن ذلك يتنافى ويتناقض بلا شك من جهة أخرى، مع إهمالها والتخلي عنها لاحقاً وتركها - أو ما يتولد عنها - تتيه في الشوارع، بعد مدة من زمن العناية بها وتكثيرها، لتنتج لنا جراء هذا الإهمال، ظاهرة خطرة هي ظاهرة الكلاب المشردة أو كلاب الشوارع. والواضح أن هناك من يهمل هذه الحيوانات، ويلقي بها في الطرقات عمداً، بعد أن تكبر، أو بعد تكاثرها وزيادة أعدادها، لتصبح جزءً من معضلة ومتاهة الإيذاء والإيذاء المقابل، التي تولد المعاناة لتلك الحيوانات وللبشر معاً.
هنا تبرز أهمية وجود قوانين وتشريعات متقدمة مقننة ناظمة لحيازة الكلاب - كونها حيوانات محتملة الضرر -، تفرض عدم إهمالها، وتمنع إلقاءها في الطرقات، بلا مالك ولا مأوى ولا مصدر غذاء منتظم ولا رعاية صحية، كما تشدد الطوق حول السماح بتكاثر هذه الحيوانات خارج نظام الرقابة والمحاسبة الذي ينتج عنه تهديد حياة الآخرين للخطر، نتيجة إهمال البعض منها والتخلي عنها، دون احساس بالمسؤولية، ودون وجود حسيب ولا رقيب، رغم تطور إمكانياتنا القانونية والتقنية، التي يمكنها أن تفرض طوق حماية مشددة حول أبناء المجتمع.
إن الحوادث التي برزت مؤخراً، ومنها الحادثة المؤسفة التي ذهبت ضحيتها طفلة الرياض، تدفعنا جميعاً لنقاش: الأطر القانونية لتربية الكلاب، وأهمية وضع تشريعات ناظمة تفرض شروطها وقيودها على من يربي الكلاب، كما هو معمول به في دول أخرى، وكذا تفرض علينا التحديات الراهنة نقاش دور المؤسسات الحكومية وغير الحكومية الربحية وغير الربحية، وأيضاً نقاش مشروعية قتل هذه الحيوانات أو اخصائها، ونقاش مدى جدوائية تجميعها في محميات خاصة بها... إلى آخر قائمة الخيارات المحتملة والقائمة.
نعلم اليوم، أن هناك جدلاً يحتدم حالياً حول هذه الظاهرة، بين مهاجم ومبرر ومدافع، وسيستمر هذا الجدل ما إستمر هذا التهديد الخطر على أرواح البشر قائماً. ونعلم أيضاً، أننا بحاجة لحل متوازن ومعقول، لا يرخص حياة البشر، ولا يستخف بقيمة حياة بقية المخلوقات الحية، التي تعيش ضمن توازنات متشابكة على كوكب الأرض، نحتاج لفهمها ومراعاتها وإدارتها جيداً، كي نقدم حلولاً عملية مناسبة.