حديث المغتربين الانتماء و القدوة بيت الشباب مثالاً
يُرجع أهل اللغة معنى (الانتماء) إلى الانتساب، فانتماء الولد إلى أبيه انتسابه إليه واعتزازه به، والانتماء مأخوذ من النمو والزيادة والكثرة والارتفاع فالشجر ينمو وكذلك الإنسان.
في حديث المغتربين الثالث أتحدث فيه عن ضرورة الانتماء لدى المغترب، ذلك الانتماء الذي يأخذ الإنسان إلى طاعة الله، والتقوى، وأداء الواجبات واجتناب المحرمات، وحسن الخلق، وحسن السيرة، و هذا الانتماء لا يكون إلا بإتباع الخط الرسالي الذي هو منهج الأنبياء و الأولياء(عليهم السلام).
حب الله والحب في الله أساس الانتماء، لا المصالح العاجلة، ولا الحميات المادية، ولا العواطف الساذجة. إن الانتماء أخطر شيء، لأنه يحدد السبيل إلى الله. فليكن عزمنا عند اختيار السبيل نابعاً من حب الله، ومن رجاء رضوانه وغفرانه. و الإسلام هو المحور الأساسي للانتماء عند الجماعة الصالحة، وهو المحرك الأول للعمل والحركة وللسلوك وللعلاقات، والمصلحة الإسلامية العليا هي الحاكمة على جميع المصالح.
والإسلام هو الانتماء الأساسي الذي يدفع بالمنتمين إليه نحو التعالي على الأواصر الضيّقة والروابط الثانوية ، ويوجّه الأنظار والمواقف إلى الهدف المشترك والى الأفق الأرحب الذي تنضوي تحته جميع الانتماءات، لتكون العلاقات في ظله قائمة على أساس التكافل والتراحم والتناصح، والأمانة والعدل والسماحة والمودة والإحسان ، وهذه العلاقات تتطلب التحرر من ضغط القيم والأوضاع المحدودة ، والمصالح والمطامع الذاتية العارضة.
والانتماء إلى منهج أهل البيت (عليهم السلام) هو الهوية المشخصة للجماعة الصالحة لتمييزها عن غيرها من الجماعات التي تنتمي إلى مناهج أخرى ففي الرواية عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال : إذا كان يوم القيامة لم تزل قدَما عبد حتى يُسأل عن أربع : (عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين أكتسبه وفي ماذا أنفقه ، وعن حبنا أهل البيت) .
و هذا الانتماء لا يكون إلا بإتباع القيادة الربانية الرسالية التي تتجلى فيها قيم الولاية الإلهية، و أن تكون هذه القيادة الربانية محور التجمع و قطب الرحى؛ لهذا فإن وجود الشخصية القدوة التي ينتسب إليها الفرد المؤمن واجب شرعي قد حثت عليه روايات أهل البيت(عليهم السلام)، وفي حديث مفصل عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام، يروي الإمام عن جده الإمام الصادق عليه السلام حديثاً حول الآية الكريمة التي تذم اليهود بإتباعهم علمائهم، حيث يقول ربنا سبحانه: (وَمِنْهُمْ اُمِّيُّونَ لاَيَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلآَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ).
فقال رجل للإمام الصادق عليه السلام: فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون من علمائهم ولا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم.
وفي الجواب بيّن الإمام نقطة الخلاف بين اليهود والمسلمين، وقال: إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح، وبأكل الحرام والرشا، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه، وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم يقارفون المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله. فلذلك ذمّهم لما قلّدوا من قد عرفوا ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول خبره، ولا تصديقه في حكاياته.
وأضاف عليه السلام: وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على طعام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقاً، و الترفرف بالبر والإحسان على من تعصبوا لـه، وإن كان للإذلال والإهانة مستحقاً. فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم.
فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه. وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة، لا جميعهم. فأما من ركب القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة، فلا تقبلوا منهم عنا شيئا ولا كرامة.
هذا الحديث يبين أمرين: الأمر الأول ضرورة الإتباع و التقليد(الإنتماء للقيادة و المرجعية القادرة على استنباط الأحكام الإلهية، الصائنة لنفسها، الحافظة لدينها، المخالفة لهواها، المطيعة لأمر مولاها). الأمر الثاني إن الإتباع والتقليد لا يعني تجرد التابع والمقلد من أحكام عقله وثوابت الشريعة، إنما عليه أن يظل متمسكاً بهما أثناء التقليد، حتى لا يكتشف متأخراً إن من اتبعه كان منحرفاً وقد أضله عن السبيل.
و في هذا الحديث أود فيه التنبيه على ضرورة ربط الابن منذ الصغر بحب المرجعية و الانتماء لها و تقليدها و هذا ماتربيا عليه منذ الصغر و عودنا عليه أبائنا، كما أن مزاحمة العلماء و الارتباط بهم ارتباطاً مباشر يزيد في عمق تفكير الإنسان المتربي و يرفعه، و هنا أستشهد بكلام سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي(دام ظله الشريف) في تأبين ابن اخيه المقدس السيد محمد رضا الشيرازي(قدس سره) حيث يقول موجهاً كلامه للجمهور: إن قدوتكم الأولى هم المعصومون الأربعة عشر عليهم السلام بلا شكّ، ولكن من يمثّل المعصومين عليهم السلام؟
لقد كان الفقيد السعيد(يعني آية الله سيد محمد رضا الشيرازي) ممّن يمثّلهم، فاتخذوا منه أسوة، واتخذوا منه قدوة؛ لأنه كان يمثّلهم مع فارق العصمة التي اختصّ الله تعالى بها المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.
في مثل هذا الشهر أكون قد طويت سنة كاملة في بلاد الغربة و خصوصاً في مدينة فانكوفر في مقاطعة كولومبيا البريطانية بكندا، و أما الآن فأنا أتهيأ للانتقال إلى مقاطعة و مدينة أخرى.
كان لي في فانكوفر تجربة فريدة و جميلة قضيتها مع أخوة لم تلدهم أمي؛ و لكن جمعني معهم رابط مشترك و هو (حب أهل البيت عليهم السلام)، هذا الرابط الذي هو أقوى من أي رابط آخر. عايشت معهم تجربة هم بدءوها و التحقت بهم و أشكر لهم فرصة إتاحة المجال لي في مشاركتهم إياها و شرف خدمة أهل البيت(عليهم السلام).
هذا التجمع الإيماني هو بيان ثمرة الانتماء لأهل البيت(عليهم السلام)، و الارتباط بالمرجعية الرشيدة التي دائما ما توصي بضرورة خلق هذا الأجواء التي تبقي جمرة الحسين(عليه السلام) مشتعلة في كل مكان و زمان.
كما أن هذه التجمعات هي بذرة لتحمل هّم الرسالة التي تبشر الناس لينضموا لهذه السفينة التي من ركبها نجا و من تخلف عنها هلك.
تجربة فانكوفر لربما ليست هي الوحيدة لأبناء الوطن في بلاد الغربة، ففي كل بقعة فيها مغترب هناك مجلس حسيني، و هناك تجمع إيماني، و لكن لعل تجربة فانكوفر لها ميزاتها الخاصة خصوصا أنها تجربة لم تقتصر على تعزيز الروح الإيمانية و حسب، بل احتوت جوانب عدة أهمها الجانب الفكري و الثقافي و الاجتماعي في نفس المغترب، و الجميل جداً أن تجد أن هناك عشرات الشباب ممن يبذلون قصارى جهدهم في سبيل خلق تلك الأجواء الحسينية سواء ببذل المال أو الجهد أو الوقت. لقد كان من بين الشباب من يعمل ليلاً و يلقي القصائد و يلحنها عبر بذل الوقت و الجهد، و لديه في فجر اليوم التالي امتحان!! إلا أنه لم يجعل ذلك عذرا للتخلف عن احياء مجالس أهل البيت(عليهم السلام).
كما أن ارتباط علماء البلاد الرساليين سواء بالمشاركة بإلقاء الكلمات التربوية و التوجيهية للشباب المغترب عبر الأثير، أو بالتواصل الدائم مع الطلبة المغتربين عبر السؤال عن أحوالهم أو الإجابة عن أسئلتهم كانت له الميزة الفعالة في هذا التجمع.
و هنا أدعوا أخوتي المغتربين إلى ضرورة تعزيز ثقافة الانتماء أولاً، و حث المغتربين على الانتماء عبر تقليد المرجعية الرسالية الربانية. كما أدعوهم للتواصل المباشر مع علماء البلاد الرساليين و ضرورة الارتباط بهم و الاستماع لتوجيهاتهم الرسالية.
كما أدعوا علماءنا الربانيين(حفظهم الله) للتواصل مع أبناءهم في بلاد الغربة و السؤال عن أحوالهم، و بث الرسائل التوجيهية بين الحين و الآخر لهم، فهذه الرسائل تدفعهم نحو الأمام إنشاء الله.
و أكرر شكري في ختام هذا المقال لأخوتي في فانكوفر، الذين رسموا الجمال بصدقهم، و جودهم، و علوا أخلاقهم، و عزيمتهم المحمدية العلوية، فكانت معرفتهم أكبر غنيمة هونت علينا البعد عن الأهل و الأحباب، فالظفر بمثل هؤلاء يستدعي أن يسجد الإنسان لله شكرا و حمدا على توفيقه له بالارتباط بمثل هؤلاء الأحبة.